لماذا تفر رؤوس الأموال من الصين؟
- يبدو أن موسم هجرة أثرياء الصين قد بدأ للتو
- تشهد البلاد ثاني أكبر موجة هجرة للأثرياء في العالم بعد روسيا
- لكن السؤال المطروح بين أثرياء الصين الآن يدور حول ما إذا كانت حكومة الرئيس شي جينبينغ ستسمح لهم بالرحيل
“يبدو أن موسم هجرة أثرياء الصين قد بدأ للتو”، إذ تشهد البلاد ثاني أكبر موجة هجرة للأثرياء في العالم بعد روسيا، ولكن بينما يعود السبب في حال روسيا للحصار الغربي، فإن الأسباب في الصين تبدو أكثر غرابة.
يُخطط هاري هو، مالك مطعم في شنغهاي، لاتخاذ خطوةٍ لم تخطر بباله مسبقاً مثل الآلاف من الأثرياء في مختلف أرجاء الصين، للانتقال بنفسه وأمواله إلى خارج البلاد.
وانضم هو بذلك إلى مجموعةٍ قدّرت شركة استشارات Henley & Partners لهجرة المستثمرين أنها تضم نحو 10 آلاف شخص من المواطنين أصحاب الثروات الكبيرة، الذين يسعون لسحب 48 مليار دولار من الصين خلال العام الجاري، نتيجة الإغلاق الفوضوي في شنغهاي وسياسة صفر كوفيد التي حولت الصين إلى دولةٍ ناشزة عالمياً.
وتمثل هذه المجموعة ثاني أكبر هجرة متوقعة للثروات والأشخاص في العالم بعد روسيا، حسبما ورد في تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
ولكن يظل قدر الأموال التي يمتلكها الراغبون في الهجرة من الصين ضئيلاً مقارنة بحجم اقتصاد البلاد، ولكنه يظل مؤشراً على تغير مزاج أثرياء الصين.
بعض أثرياء الصين يتساءلون هل يسمح لهم الرئيس بالرحيل؟
لكن السؤال المطروح بين أثرياء الصين الآن يدور حول ما إذا كانت حكومة الرئيس شي جينبينغ ستسمح لهم بالرحيل.
ولم يفرض المشرعون في الصين قيوداً صريحة على الانتقال، لكن محامي الهجرة يقولون إن الانتقال أصبح أكثر صعوبة خلال الأشهر الأخيرة بالتزامن مع زيادة أوقات إصدار جوازات السفر وصعوبة المتطلبات اللازمة لاستخراج الوثائق.
حملة الرخاء المشترك تخيف رجال الأعمال
ما يمهّد الطريق أمام جولةٍ جديدة من التوترات في العلاقة بين أثرياء الصين وبين الحزب الشيوعي الحاكم، وهي العلاقة التي كانت متوترةً بالفعل نتيجة حملة الرئيس ضد الأثرياء تحت اسم من أجل “الرخاء المشترك”، والتي تصفها المصادر الغربية بالشعبوية.
وكان الرئيس الصيني شي جين بينغ، قد أعلن في سبتمبر/أيلول 2021، خططاً لنشر “الرخاء المشترك” في واحد من أكثر الاقتصادات الكبرى غير المتكافئة في العالم، مِمَّا يشير إلى تحوُّلٍ عن سعي أسلافه لتحقيق النمو، وينذر بحملةٍ صارمة على النخب الثرية- بما في ذلك مجموعة المليارديرات في قطاع التكنولوجيا.
وكان أبرز ضحايا هذه الحملة من أثرياء الصين الملياردير جاك ما مؤسس مجموعة علي بابا والذي أوقف له أكبر اكتتاب في العالم، واختفى لفترة كان يعتقد أنه احتجز فيها قبل أن يظهر مجدداً ويتاح له السفر لخارج البلاد بعد فترة من أزمته.
كانت أزمة جاك ما مؤشراً على نهاية العصر الذهبي لرجال الأعمال وغيرهم من أثرياء الصين، فبعد أن وجّه انتقادات عنيفة للقواعد التنظيمية المالية التي وضعتها الصين، واتّهمها بأنها تخنق الابتكار عام 2019، اختفى جاك ما تماماً عن الأنظار، وسط اتخاذ بكين جملة من الإجراءات وضعت إمبراطوريته المالية في حالة من الفوضى.
ورغم كون مؤسس “علي بابا” أغنى رجل في الصين، إذ كانت تبلغ ثروته أكثر من 48 مليار دولار، لكن سرعان ما تبيّنت هوية من يُحرّك السفينة.
فبين ليلةٍ وضحاها، جرى استدعاء رجل الأعمال الرائد واثنين من مساعديه للقاء الجهات التنظيمية المالية، وفي اليوم التالي مباشرة جرى إلغاء تعويم Ant Group في البورصة، وهي شركة مالية على الإنترنت انبثقت عن “علي بابا” وتضم نظام المدفوعات الرقمي Alipay.
ولدى الصين سجل من التعامل الحاد مع رجال الأعمال الذين يوجهون أي انتقادات للنظام، انتهى بعقوبات مختلفة منها اختفاء بعضهم.
القشة الأخيرة هي الإصرار على سياسات صفر كورونا
ولكن يبدو أن موجة هجرة أثرياء الصين الحالية أسبابها أكثر توسعاً، إذ ترتبط بما يعتبره البعض، سياسات اقتصادية معاكسة للأعمال، خاصة الإصرار على إغلاقات جائحة كورونا، ومخاوف من توسع هذا التوجه، خاصة في مخاوف الحزب الشيوعي من نفوذ المؤسسات العملاقة، وقلقه أيضاً من الإحباط الشعبي من التفاوت الاجتماعي الصارخ الذي خلقته النهضة الاقتصادية في البلاد، وهو التفاوت الذي يتزامن مع تصاعد الإحساس بأن الحراك الطبقي، بات أصعب مع نضوج التجربة الاقتصادية للبلاد.
وقال نيك توماس، الأستاذ المساعد بجامعة مدينة هونغ كونغ، إن الرحيل المحتمل للنخب ورجال الأعمال ورؤوس الأموال سيفرض “تكلفةً مؤكدة على الاقتصاد الصيني”.
بينما قال هو إنه عازمٌ على الانتقال إلى كندا رغم الصعوبات المفروضة على الرحيل.
وباع هو (46 عاماً) مؤخراً جزءاً كبيراً من حصة الأغلبية التي يمتلكها في مطعمين راقيين بشنغهاي مقابل 20 مليون يوان (أي نحو ثلاثة ملايين دولار)، ثم عيّن محامياً للهجرة ومديراً للثروات من أجل مساعدته في الانتقال. وأضاف: “لك أن تتخيل أنني كدت أموت جوعاً في بداية الإغلاق داخل المدينة الأكثر تطوراً في الصين”.
وصرح محامو ومستشارو الهجرة في الصين بأن استفسارات الهجرة زادت بما يتراوح بين ثلاثة وخمسة أضعاف خلال الربيع، إبان إغلاق شنغهاي، مقارنةً بالعام الماضي. كما أفاد سبعة مصرفيين، رفضوا ذكر أسمائهم، بأن الاستفسارات عن نقل الأموال خارج البلاد زادت بشكلٍ كبير.
وأفادت سومي، مستشارة الهجرة في شنغهاي التي رفضت الإفصاح عن اسمها بالكامل: “شعر الكثيرون بأنه ليس أمامهم خيارٌ آخر بسبب إغلاق كوفيد”.
وفي مؤشرٍ آخر على المزاج الوطني، انتشرت على الشبكات الاجتماعية مذكرةٌ صدرت مؤخراً عن الملياردير هوانغ ييمينغ من شنغهاي، وأخبر خلالها موظفيه بخططه للانتقال مع عائلته إلى خارج الصين.
ولم يُشِر الرئيس التنفيذي لشركة الألعاب XD إلى الإغلاق بشكلٍ مباشر في مذكرته، بينما أخبرت الشركة وسائل الإعلام بأن انتقال هوانغ يرجع لأسباب عائلية. لكن الإعلان أثار الجدل حول الرغبة المتزايدة في الهجرة بين الناس.
أبرز وجهات هجرة أثرياء الصين
وتشمل قائمة الوجهات الشهيرة الولايات المتحدة، وسنغافورة، وأستراليا، وكندا، وبعض مناطق أوروبا. وزادت بعض هذه الدول من صرامة عمليات الهجرة إليها، أو تراجعت عن خطط منح التأشيرات للمستثمرين. بينما تضم قائمة المناطق ذات متطلبات الاستثمار المنخفضة نسبياً دولاً مثل إسبانيا، والبرتغال، وأيرلندا التي قد تتحول إلى وجهات شهيرة وفقاً لأحد المصرفيين.
من ناحية أخرى، زاد عدد مكاتب الشركات العائلية في سنغافورة بمقدار الضعف أواخر عام 2021، مقارنةً بالعام السابق، وفقاً لسلطة النقد السنغافورية. وزاد الطلب بسرعةٍ كبيرة خاصة بين عائلات رواد الأعمال الصينيين، مما يُشير إلى أن فاحشي الثراء ربما انتقلوا إلى الخارج بالفعل.
ومع ذلك أوضحت جينيفر هسو، الزميلة الباحثة في مؤسسة Lowy Institute البحثية الأسترالية، أنه “لا تزال هناك الكثير من الحواجز المؤسسية. وربما ترغب في الرحيل، لكن العقبات تظل متنوعةً سواءً من جانب الصين أو المكان الذي ترغب في الهجرة إليه”.
بكين تقيد الهجرة ببطء، والمشكلة الكبرى في تحويل الأموال
وأصبح استخراج الأوراق اللازمة للرحيل من الصين أكثر صعوبة في الوقت الحالي.
حيث تحاول الحكومة الصينية إثناء الناس عن السفر غير الضروري منذ أواخر عام 2020، بحجة تدابير كوفيد الوقائية. وفي مايو/أيار، أعلنت إدارة الهجرة الوطنية الصينية أنها ستُقيّد بشكل صارم سفر المواطنين غير الضروري إلى خارج البلاد، وستشدد الرقابة على إصدار وثائق الدخول والخروج من البلاد.
ويتعيّن على المهاجرين المحتملين اليوم أن يكونوا أكثر حنكة في إخراج أموالهم من الصين. إذ يُسمح للمواطنين بتحويل عملات اليوان إلى عملات أجنبية بقيمة لا تتجاوز الـ50 ألف دولار فقط سنوياً. وكان الأثرياء يعثرون على طرق مختلفة للتحايل على هذه القاعدة في الماضي، لكن بعض تلك الخيارات بدأت تنهار.
وتضمنت الخيارات التي كانت متاحة لإخراج الأموال من الصين العام الماضي استخدام العملات المشفرة، أو عقد ترتيبات، خاصة مع أطرافٍ خارج البلاد ترغب في إرسال الأموال باليوان إلى داخلها. لكن حملة الصين الكاسحة ضد العملات المشفرة في الأعوام الأخيرة أدت إلى حظر أنشطة التداول، والعروض الأولية للعملات، والتعدين، والمعاملات بالكامل تقريباً.
وأصبحت اتفاقيات تبادل العملات أصعب اليوم، في ظل قلة عدد الأشخاص الذين يرغبون في نقل الأموال إلى داخل الصين، وذلك وفقاً لمصرفي خاص من هونغ كونغ رفض الإفصاح عن هويته.
من ناحيته، يأمل ديفيد، الذي رفض ذكر اسمه الأخير، أن يحصل على البطاقة الخضراء الأمريكية سريعاً لتساعده في نقل أمواله خارج الصين. وتسمح الحكومة عادةً للحاصلين على إقامة دائمة في دولةٍ أخرى أن ينقلوا مبلغاً كبيراً من المال للخارج في تحويلٍ يُجرى لمرة واحدة.
وأردف ديفيد (42 عاماً): “أعتقد أن الاقتصاد الصيني سيواجه العديد من التحديات مستقبلاً”، مشيراً إلى أن تباطؤ الاقتصاد وسياسات كوفيد والتوترات الجيوسياسية هي دوافعه للرحيل.
وربما ارتفعت الآمال بتخفيف الصين لسياسات كوفيد بعد قرارها الأخير بتقليص فترة الحجر الصحي بالفنادق للواصلين من الرحلات الدولية إلى سبعة أيام فقط، لكن الشكوك والمضايقات لا تزال تعكر صفو الحياة اليومية في الصين. بينما أكّد شي دعمه لسياسة صفر كوفيد خلال خطبة ألقاها في ووهان الشهر الماضي، قائلاً إن هذه السياسية هي الاستراتيجية الأكثر “اقتصادية وفاعلية” بالنسبة للصين.
ولا يزال العديد من السكان قلقين من دخول شنغهاي في إغلاقٍ جديد مع استمرار حالات كوفيد وحملات الفحص الجماعي التي صدرت الأوامر بإجرائها، فيما تظل حالات الإغلاق مفروضةً داخل بعض المدن الأخرى.
لكن تخفيف القيود جزئياً لم يؤثر على خطط الهجرة الخاصة بهو، مالك المطعم.
حيث أوضح: “فكرت في الرحيل عن الصين عدة مرات من قبل، وكنت أستسلم في كل مرة. لكنني عازمٌ على الرحيل هذه المرة”. لكن لم يصله الرد على طلب تجديد جواز سفره وإصدار تأشيرته حتى الآن، رغم إرسال الأوراق اللازمة منذ أكثر من شهر.