أخبار الآن | الإمارات العربية المتحدة ( رامي شوشاني)
الصراع الإثني في جنوب افريقيا دخل التاريخ من بابه العريض، حروب و نزاعات مزقت النسيج الإجتماعي و خلّف عددا كبيرا من القتلى و الضحايا.
لماذا يدخل الصراع الإثني التاريخ لأننا هنا نتحدث عن تراجيديا مكتملة الأركان كما وصفت في كتب التاريخ.
عندما كان العالم في خضم التغيرات الجذرية ، والثورات التحررية، وانتشار النضال والاحتجاج، كان العالم في كفة، وجنوب أفريقيا كانت في كفة أخرى. فبين العامين 1948 و1994، كانت جنوب أفريقيا هي الدولة الوحيدة التي تقر سياسة الفصل بين الأعراق، وتحديدًا بين السود والبيض، في نظام أقر الأبارتيد، الذي تمسك به الحزب الوطني في بريتوريا التي كانت حينها عاصمة البيض الذين يتحكمون بمصير السود في جنوب أفريقيا.
كيف ومتى بدأ الصّراع؟
الأبارتيد كلمة تتعدى حدود ما يحمله تعبير الفصل العنصري من معنى حرفي إلى ما يمكن أن يحمله من معاني التجرد من الانسانية، باعتبار السود بشرًا أقل من البيض، تُخَصَّص لهم البراري كالحيوانات، بينما تخصص المطاعم والمتاجر والشواطئ للبيض حصرًا، في استدعاء مقيت لِمَا كان المستوطنون الهولنديون الاوائل يفعلونه في هذه البلاد حين نزلوا فيها، آتين من عالمهم المتمدن في القرن السابع عشر، إذ أنّ أول أمر أقاموه كان سياجًا من اشجار اللوز يفصلهم عن سكان الأرض الاصليين، وإجبار هؤلاء على الحصول على تصريح خاص للتنقل في ما كان بالأصل أرضهم، اعتبارًا من عام 1797. وحين أنشئت مدينة جوهانسبرغ، وغيرها من المدن، بعد عام 1886، أجبر السود على مغادرة عن مساقط رؤوسهم للبيض ليسكنوا في أحياء بائسة على اطراف المدن.
في عام 1910، كانت ولادة دولة جنوب أفريقيا، حين اتحد الانكليز المستعمرون الجدد، مع الأفريكان, وكان من بنود الاتحاد استبعاد السود وتجاهلهم والاكتفاء باستعبادهم لا أكثر. وأسند البريطانيون السلطة لـالبوير; الهولنديين والمستوطنين البيض البريطانيين.
الرد الأسود أتى بولادة حزب المؤتمر الوطني الافريقي، الذي أخذ على عاتقه المناداة بحق السود في العيش بسلام وكرامة على أرضهم وأرض أجدادهم، والذي تولى نلسون مانديلا قيادته لاحقًا. فقد كان على الأفارقة السود أن يبحثوا سبل الدفاع عن أرضهم وحريتهم.
في العام 1911، وجه Pixley ka Isaka Seme نداءً إلى الأفارقة ودعاهم إلى تناسي خلافات الماضي في ما بينهم، والاتحاد في منظمة وطنية واحدة. وفي 8 كانون الثاني (يناير) 1912، اجتمع رؤساء وممثلون عن المجتمعات الإفريقية وممثلون عن منظمات كنسية وغيرهم من الشخصيات البارزة في Bloemfontein، وأسّسوا المؤتمر الوطني الأفريقي، و كان هدفه توحيد الأفارقة ليكونوا شعبًا واحدًا يدافع عن حقوقه وحريته
ماهي المعوّقات الرئيسية الّتي عطّلت السلام، و أدّت إلى طريق مسدود و إلى استمرار الصراع ؟
بين العامين 1912 و1948، انتهج المؤتمر الوطني الأفريقي مع السلطة العنصرية منهج الحوار، إذ آمنت قيادة المؤتمر بإنسانية البيض وإمكان الوصول إلى تسوية عادلة عن طريق الإقناع. لكن النظام العنصري واصل سياسة اقتلاع السود ونزع ملكياتهم. ولم يتمكن المؤتمر من منع تبني سلسلة قوانين تعزز الفصل العنصري، وبينها منع السود من شراء اراض خارج المناطق الفقيرة والضيقة، ومن مزاولة بعض المهن.
وفي العام 1948، فاز الحزب الوطني الذي يجاهر بعنصريته وبمنطق حماية مصالح الافريكان من الخطر الاسود، الذي اختلط سريعًا بالخطر الاحمر الشيوعي في أجواء الحرب الباردة. فتعاطف الغرب طبيعيًا مع نظام الفصل العنصري.
تعاظمت الاجراءات العنصرية، حتى كان أول قانون في العام 1949 يمنع الزواج بين الاعراق، وقانون آخر يمنع العلاقات الجنسية بين أشخاص من أعراق مختلفة في عام 1950، تم تنفيذه من خلال قانون آخر هو قانون تسجيل السكان، الذي صنف سكان جنوب أفريقيا في أربعة أعراق بحسب لون البشرة وحدد كل أوجه حياتهم. ثم أتى قانون السّكن المنفصل، ليصبح الفصل العنصري سائدًا في كل شبر في جنوب أفريقيا، لتُزَال أحياء عن بكرة أبيها، مثل صوفيا تاون في جوهانسبرغ، والمنطقة السادسة في الكاب، من أجل إبعاد السود إلى مدن صفيح نائية، لا من يراهم ولا من يسأل عن أحوالهم، بعد طرد نحو 3 ملايين و 500 ألف شخص ومصادرة أملاكهم ومزارعهم، ومنحها إلى مواطنين بيض.
متى وكيف وصل الصّراع إلى ذروته ؟
اعتقد السود أن مدن الصفيح هذه ستأويهم، لكنها لم تكن إلا حلًا موقتًا، قَبْل عزل السود بحسب إثنياتهم، ليصيروا غرباء في بلادهم، فقد كان عليهم دائمًا حمل تصريح مرور حين يمرّون بالشوارع الخاصّة بالبيض يثبت أن لديهم عملًا في مناطق لا يحق لهم السكن فيها أو المرور. وفي منعزلاتهم، تلقى أطفال السود وأولادهم تعليمًا بدائيًا، لم يكن ليؤهلهم أن يتبوأوا اي وظيفة، لأن المطلوب كان استبعادهم تمامًا عن الحياة العامة، أو استعمالهم كعمالة يدوية رخيصة الثمن كحد أدنى.
لم يسكت السود عما يحل بهم من كوارث، فأعلنوا حملة التحدي في عام 1955، ثم قاموا بعصيان مدني، بقيادة المؤتمر الوطني الافريقي، رافقه تحول بعض أقسام المعارضة السوداء إلى العمل المسلح، الذي رفضه المؤتمر ومانديلا. وتعاظمت ضغوط المجتمع الدولي على جنوب افريقيا بسبب نظامها العنصري، فسلّطت عليها العقوبات الاقتصادية، ما دفع بريتوريا إلى إلغاء القوانين العنصرية تدريجًيّا اعتبارا من ثمانينات القرن الماضي، إلى أن زالت العنصرية من البلاد مع أول انتخابات متعددة الاعراق في عام 1994، و الّتي أوصلت نيلسون مانديلا الى السلطة.
ماهو العامل الرئيسي الذي جعل من خيار السّلام أفضل من استمرار الصراع؟
نيلسون مانديلا نجح بفضل دعم نضال رجال ونساء المؤتمر الوطنى الإفريقي الذى استمر فى الكفاح ضد نظام الفصل العنصري وبكافة الوسائل المتاحة، فقد جربوا حرب اللاعنف على طريقة غاندى، ودفعتهم وحشية ممارسات حكومة الفصل العنصري إلى استخدام العنف، ولمّا ترنح النظام العنصري وقرّر العدول عن عدوانه تحول النضال إلى الكفاح الديمقراطي والدستوري على مدار قرابه عشرين عاماً بينما كان مانديلا ورفاقه يقبعون فى غياهب السجون.
مانديلا نجح كذلك بفضل تأسيسه لجان فض النزاعات وصناعة السلام في كلّ مدن وقري جنوب أفريقيا لمعالجة الجروح الإجتماعية الغائرة بين السود والبيض عبر الحوار والتواصل والتدريب وحصار مناطق التوتر وإعادة تأهيل الشرطة لتكون خادمة للشعب، وتم ذلك عبر المصالحة والإعتذار ولولا عمل هذه اللجان لما نجح تسامح مانديلا فى أن يتجسد واقعا يعيشه الناس.
كما نجح مانديلا بفضل انحياز الرئيس الأبيض فريدريك دكلارك للخيار الديمقراطي وفتحه الطريق أمام سريان عجلة العدالة الإنتقالية لتجهيز المشهد السياسي لمشاركة الجميع فى إدارة البلاد سياسيا دون تهميش أو إقصاء لأحد، وقد اتخذ دكلارك هذا القرار الشجاع على الرغم من معارضة الأقلية البيضاء المُهيمنة على مقاليد الأمور الإقتصادية والسياسية والأمنية؛ ولذلك حاز على جائزة نوبل للسلام مناصفة مع مانديلا.
لماذا، يا ترى، اتخذ دي كليرك، ومعه مجلس وزرائه، الإجراءات التي ذكرتها؟ ففي المنظور العام، لم يكن، بأي حال من الأحوال، أمرا طبيعيّا، أن تهدم الطبقة المهيمنة على الحكم، تلك الأسس بالذات، التي تقوم عليها هيمنتها؛ فتحوّلٌ من هذا القبيل لا يمكن أن يتخذه النظام العنصري طواعية. كما أن الوقائع تشهد، أيضاً، أن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي ما كان، في تلك الحقبة من الزمن، يمتلك القوة التي تسمح له بالهجوم على بريتوريا واحتلال مكاتب الحكم والسّلطة فيها.
وكبديل عن عمليات الإصلاح، كان بوسع ذوي السلطة أن يواصلوا العمل بأساليب التنكيل والانتقام المعهودة، فالدولة كانت لديها القوة الكافية للقضاء على التمرد على مدى سنوات كثيرة. بيد أن التكاليف المرتبطة بهذه الأساليب كان يمكن أن تصل إلى مستويات، تدمِّر، ليس اقتصاد البلاد فحسب، بل ومستقبل البيض أيضاً. وأحيط علماً بهذه الحقيقة ليس رجال الأعمال البيض فقط، بل وفئات عديدة من الطبقة العليا المحيطة بدي كليرك. إن الأزمات المختلفة، التي عصفت بالبلاد في الثمانيات، كانت، بلا أدنى شك، العامل الذي دفع الحكومة إلى اتخاذ موقف مختلف.
ما حدث منذ ذلك الحين
منذ ذلك الوقت و بفضل عمل لجنة الحقيقة والمصالحة نجحت جنوب إفريقيا في تثبيت نفسها كدولة عادلة تساوي بين مواطنيها و تمكّنت من تجاوز عقود من القمع والتمييز والعنف بفضل المصالحة الوطنيّة، البلاد أصبحت تساوي بين جميع أفراد شعبها، بصرف النظر عن اللون أو العرق. وأصبحت بذلك دولة جنوب إفريقيا بنجاحها في تجاوز انقسامات الماضي نموذجا للبلدان في جميع أنحاء العالم لتعزيز السّلام.
ما هو صدى مآل الصراع الإثني في جنوب افريقيا في الشارع الفلسطيني؟