كيف تم اكتشاف هوية الجاسوس الروسي في هولندا؟
فيكتور مولر فيريرا.. رجل برازيلي عاش لسنوات طويلة وهو يمارس حياته بشكل طبيعي مثل ملايين البشر، قبل أن يتم الكشف في آخر الأمر أنه جاسوس روسي تم تدريبه وزرعه في هولندا منذ سنوات طويلة لاستخدامه في الوقت المناسب.
فما قصة هذا الرجل؟ وما هي المهمة التي تم تجنيده من أجلها؟ وكيف نجحت أجهزة الأمن في كشف هويته الحقيقية رغم الغطاء الوهمي الذي تم تصميمه له من جانب أجهزة الاستخبارات الروسية خلال سنوات طويلة؟.
في قصة تبدو وكأنها خرجت لتوّها من شاشات السينما، أمضى رجل يُدعى سيرغي فلاديميروفيتش تشيركاسوف سنوات في بناء هوية مزورة، قبل التقدم للحصول على تدريب داخلي في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
ومنعت الاستخبارات الهولندية سيرغي، الذي تم اكتشاف أنه عميلاً في الاستخبارات الروسية، من الوصول إلى المحكمة الجنائية الدولية للعمل كمتدرب.
الجاسوس الروسي في هولندا كان يستخدم هوية برازيلية
وكان سيرغي يستخدم هوية برازيلية باسم فيكتور مولر فيريرا، كغطاء للسفر من البرازيل إلى هولندا، ويمارس حياته بشكل عادي، قبل أن تلتقطه أجهزة الاستخبارات الهولندية، وتكشف خيوط قصة مثيرة تم نسجها بعناية.
الجاسوس الروسي في هولندا ينتمي لفئة معينة من العملاء
وبالنسبة لأولئك الذين عرفوه، كان فيكتور مولر فيريرا برازيليًا مهتمًا بالشؤون الدولية، لكن في الواقع، قالت وكالة الأمن الهولندية إنه كان نوعًا معينًا من الجواسيس الروس المعروفين باسم ”غير القانونيين“.
ولتوضيح الأمر، تستخدم المخابرات الروسية اسم ”غير القانونيين“ هذا لتمييز الضباط عن الجواسيس “القانونيين” الذين يتنكّرون بغطاء الدبلوماسية.
وتخصصت روسيا منذ فترة طويلة في إعداد نوع من العملاء ”غير القانونيين“ الذين يأخذون جنسية مختلفة تمامًا، ويتظاهر هؤلاء الجواسيس بأنهم أمريكيون أو بريطانيون أو كنديون أو أي جنسية أخرى.
ووفقًا للتقارير، قد يستغرق الأمر ما بين 5 إلى 10 سنوات حتى يتم تدريب العميل غير القانوني ونسج غطاء له، بينما لا يُعتقد أن هناك الكثير منهم، وربما يكون عددهم أقل من 30 فرد يعملون لحساب المخابرات العسكرية الروسية.
وبدأ سيرغي عمله في هولندا بمهمة واضحة ومحددة، وهي اختراق المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وجمع المعلومات الاستخباراتية هناك والبحث عن المصادر، والترتيب للوصول إلى الأنظمة الرقمية للمحكمة.
ووفقًا لوكالة الأمن الهولندي، فإن سيرغي بهذه الطريقة كان سيصبح قادرًا على تقديم مساهمة كبيرة للمعلومات الاستخباراتية التي تسعى إليها المخابرات العسكرية الروسية، وربما كان قادرًا أيضًا على التأثير في إجراءات المحكمة الجنائية الدولية.
محمد الوشاحي يكشف تفاصيل القضية
وللتعمّق أكثر في تفاصيل هذه القصة، توجّهنا في أخبار الآن إلى محمد الوشاحي، الذي يعمل كمستشار مخابرات في شركة ديامي بهولندا.
وقال الوشاحي عن العملية الاستخباراتية الروسية: ”الاستغراب لم يكن بسبب أن هناك جواسيس روس يحاولون اختراق أمن دول أوروبية أو في أمريكا، ولكن الاستغراب كان بسبب درجة الإهمال التي نفذت بها روسيا هذه العملية“.
وأوضح الوشاحي أن الحرب الاستخباراتية في أوروبا اشتعلت بشدة قبل بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث قال: ”من قبل أن تبدأ الحرب في أوكرانيا، أجهزة الاستخبارات الأوروبية والأمريكية والروسية بدأت حربها الخاصة، وحاولت الدخول إلى أنظمة عالمية مثل المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي والناتو“.
وأضاف: ”ليس من المستغرب أن تقوم روسيا بمثل هذا الأمر، والهدف في نهاية المطاف هو حماية الأهداف القومية، فإن استطاعت المحكمة الجنائية الدولية الوصول إلى ما يكفي من الأدلة ضد ضباط عسكريين وضباط روس، فهذا يعتبر مصيبة كبيرة للروس، ولذلك جاءت محاولتهم لتخريب عمل المحكة الجنائية عن طريق زرع أحد جواسيسهم داخلها“.
ولعل الأمر يشغل جميع المتابعين في عالم الجاسوسية هو كيفية تزوير الهوية، ومدى صعوبة الكشف عن الهوية الحقيقة للجاسوس، وكيف تتمكن أجهزة الأمن من تنفيذ ذلك.
وبالنسبة لطريقة تزوير الهوية في قضية الجاسوس الروسي سيرغي، فإن مدونته الشخصية على الإنترنت تقود إلى صفحتين على فيسبوك وتويتر تحت اسمه البرازيلي المزور، وتحتوي صفحته على فيسبوك على معلومات محدودة ولكنها مليئة بمئات الأصدقاء من البرازيل موطنه المزعوم. كما أن معلومات السيرة الذاتية على صفحته على فيسبوك، تتطابق مع معلومات ”هويته الزائفة“ التي تكشف عن طفولته وكونه من البرازيل، وتحديدًا من ريو دي جانيرو.
وتشير معلومات الهوية المزورة للجاسوس الروسي إلى أنه انتقل إلى واشنطن في شهر أغسطس من عام 2018، وتُظهر البيانات تخرجه من جامعة جونز هوبكنز في عام 2020.
كما تكشف منشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي عن مزيج انتقائي من الآراء بما في ذلك بعض الانتقادات المعتدلة لروسيا، والتي يمكن تفسيرها على أنها محاولة بناء غطاء له للتستر خلفه.
ولتوضيح كيفية كشف هوية الجواسيس الذي يعملون تحت هذا الغطاء المُعقّد، قال الوشاحي: ”من الصعب جدًا اكتشاف الهوية الحقيقية لمثل هؤلاء الجواسيس، لأنهم يعملون على مدار سنوات طويلة من أجل بناء قصة حياة افتراضية ومزيفة، ويحرصون على توخي الحذر والدقة في كل تصرف للحفاظ على سرية هويتهم الحقيقية“.
وأضاف: ”ولكن في الوقت ذاته، ليس من العجب أن ينجح جهاز الأمن الهولندي في اكتشاف هوية الجاسوس الروسي، فهو جهاز عريق وله خبرة طويلة في الكفاح ضد الجواسيس والكشف عنهم منذ أيام الاتحاد السوفيتي“.
وفي قصة سيرغي، حاول العميل الروسي بناء هوية مزورة بالكامل، واختلق قصة حياة مزيفة في البرازيل، وجاءت القصة درامية للغاية، إذ تصلح لبناء فيلم سينمائي.
وعلّق محمد الوشاحي على هذه القصة قائلًا: ”بالنسبة لي عندما قرأت حياته التي كتبها ووصف خلالها كيف عاش في البرازيل، وذكر أن كل شخص تقريبًا في عائلته قد توفي، وجدتها قصة تصلح لعمل سينمائي“.
وأوضح: ”طبعًا مثل هذا الأمر هو عمل فني محدد بالنسبة لبناء الهوية المزورة للجواسيس، ويتم ذلك حتى تقطع أجهزة الاستخبارات طريق التعقب أمام المحققين، ولا يجدوا أي أشخاص على قيد الحياة يكشفون هويته الحقيقية“.
ولم تكن هذه العملية بجديدة على أجهزة الاستخبارات الروسية، حيث حاولت مرارًا وتكرارًا اختراق مؤسسات دولية كبرى في أوروبا وأمريكا، بالإضافة لجهودها في اختراق أمن مختلف الدول حول العالم.
وقال الوشاحي عن هذا الأمر: ”طبعًا هذه العملية ليست مستغربة على أجهزة الاستخبارات الروسية، والتي لديها خبرة طويلة في زرع الجواسيس وبناء هويات زائفة لهم، ونذكر ما حدث في الولايات المتحدة إبان نهاية حكم باراك أوباما، عندما تم اكتشاف عدد كبير من هؤلاء الجواسيس الذي يعملون داخل أمريكا بهويات مزورة“.
وبعد الكشف عن هذه العملية الروسية، برز السؤال إن كان الغرب غارقًا في مثل هذه العمليات الاستخباراتية، وإن كانت الأجهزة الأمنية في أوروبا قادرة على مواجهة هذا الأمر.
وللرد على هذه النقطة، أوضح الوشاحي: ”لا أعتقد أن الغرب يغرق في مثل هذه العمليات، أجهزة المخابرات في أوروبا على علم بعمليات داعش ومن قبله تنظيم القاعدة من قبل أن تحدث في بعض الأحيان وهي قادرة على مواجهة مثل هذه المخاطر، الأمر ذاته ينطبق على قدرتها على مواجهة العمليات الاستخباراتية الروسية ومحاولات الاختراق“.
وأضاف: ”حتى وإن كانت بعض العمليات تتم في دول صغيرة، في هذه الحالة، يطلب جهاز الأمن في هذه الدولة المساعدة من جهاز مخابرات أكبر، من أجل مواجهة خطر الاختراق والتصدي له“.
قد تبدو قصص الجاسوسية مشوقة ومثيرة للاهتمام، إذ يحمل الجميع فضولًا كبيرًا للتعرف إلى هذا العالم الغامض الملئ بالمغامرات، ولذلك تحقق أفلام الجاسوسية نجاحًا هائلًا ونسبة مشاهدات ضخمة حول العالم، وفي الوقت ذاته، فمن المؤكد أن مثل هذه الحرب الخاصة بين الأجهزة الاستخباراتية حول العالم ستظل مشتعلة، خاصة مع استمرار الغزو الروسي لأوكرانيا.