أفريقيا وآسيا.. محور داعش الجديد
- لعبت القيادات المكانية الإقليمية، دورًا محوريًا في تعزيز سيطرة التنظيم على الأفرع الخارجية.
- القيادة المركزية تحرص على إيفاد مبعوثين “عراقيين غالباً” إلى أفرعها خارج سوريا والعراق.
- دور المبعوثين هو قيادة تلك الأفرع أو الرقابة على قيادتها المحلية وضمان سيطرة التنظيم المركزي على الموارد.
- التخلص من أبو بكر شيكاو، تأكيد على نهج داعش في استئصال قادة المجموعات المحلية الذين يسعون للابتعاد عن السيطرة المركزية.
- قيادة التنظيم المركزية أشارت على أنها ستتبع مقاربة استئصالية للتخلص من أي مخالفين لنهجها.
وسط 3 من رجاله، جلس أبوبكر البغدادي، زعيم تنظيم داعش (2010: 2019)، وبين راحتيه ملفات ورقية دونت عليها أسماء أفرع التنظيم الخارجية، بعد نحو شهر على سقوط آخر معاقل الخلافة المكانية في قرية الباغوز فوقاني السورية (مارس/ آذار 2019)، وعقب حديثٍ لعدة دقائق شرع في تصفح الملفات مع أحد مرافقيه، بينما دوى في الخلفية مقطعًا من أنشودة داعشية يقول: “سوف نسعى للنضال في جميع الجبهات”.
وفي حين، وضع “البغدادي” أغلب الملفات أمامه دون فتحها، كما ظهر في الإصدار المرئي الذي بثته مؤسسة الفرقان بعنوان في ضيافة أمير المؤمنين (أبريل/ نيسان 2019)، ركزت الكاميرا عليه أثناء تصفحه تقارير متتالية كُتب على أحدها “ولاية الصومال” والآخر “ولاية وسط إفريقيا”.
التوجه الداعشي نحو إفريقيا وآسيا
مثل ظهور زعيم داعش، في هذا التوقيت، حدثًا استثنائيًا لا سيما أنه اختفى عن الأنظار طوال 5 سنوات، منذ ظهوره الأول في الجامع النوري بمدينة الموصل العراقية، يوليو/ تموز 2014، لكنه أراد من خطوته تلك إرسال رسالة ضمنية لأتباعه أن تنظيمه لا زال باقٍ رغم تبدد خلافته في العراق وسوريا.
وسعى “البغدادي” في خطابه للتأكيد على سردية داعش وعلامته الجهادية الخاصة المرتكزة على فكرة “البقاء والتمدد”، معلنًا أن تنظيمه لم يقض عليه بل تحول من العمل بنمط السيطرة المكانية في سوريا والعراق إلى نمط الحرب الاستنزافية الشاملة في جميع أنحاء العالم.
بدا داعش، حينها، وكأنما انتبه فجأة لـ أفرعه المحلية في مناطق غرب ووسط إفريقيا، وجنوب شرق آسيا والقارة الهندية، حتى أن زعيم التنظيم أشاد بأبي الوليد الصحراوي، أمير داعش في الصحراء الكبرى ووسط إفريقيا، للمرة الأولى منذ إعلان الأخير بيعته له في مايو/ أيار 2015، وكذلك فعل مع زهران هاشم، زعيم جماعة التوحيد الوطنية السيرلانكية، الذي بايع “البغدادي” قبل فترة وجيزة من شن هجمات “الفصح الدامي” بسيرلانكا (أبريل/ نيسان 2019).
على أن الأحداث اللاحقة أكدت أن ثناء قيادة داعش على أفرعه المحلية خارج سوريا والعراق، لم يكن يهدف لكسب الزخم الدعائي فحسب، إذ تبين أن التنظيم يعمل على نقل معركته من قلب معاقل نشاطه التقليدية إلى الأطراف في إفريقيا وآسيا ضمن توجهه الاستراتيجي الجديد (الحرب الاستنزافية)، مستفيدًا من الوضع الأمني الهش والتعقيدات الديموغرافية والجيوسياسية في العديد من الدول.
الاستنزاف عبر “نظرية الذراعين”
ويكشف التدقيق في الملامح العامة لاستراتيجية داعش الجديدة، أن التنظيم أعاد صياغة خطته العسكرية وفقًا لنظرية التحرك في الذراعين التي كتبها المنظر الجهادي عبد الله بن محمد في إحدى رسائله الموجهة لزعيم تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن، عام 2011، ونُشرت لاحقًا، تحت عنوان: “مذكرة استراتيجية”.
وتقوم النظرية السابقة على أساس حشد وتركيز الجهد العسكري الرئيس في المركز (سوريا والعراق في حالة داعش)، في الوقت الذي تقوم فيه الأفرع الخارجية بالعمل على إشغال العدو واستنزافه في مجالها الجبهوي بحيث يصبح التحرك العملياتي على أكثر من جهة في شكل ذراعين، بجانب وجود عدد من الجبهات الجزئية (جنوب، وشرق آسيا.. إلخ) بما يضمن تشتيت جهود مكافحة الإرهاب التي قد يتزعمها تحالف دولي (كما يتوقع عبد الله بن محمد) على جبهة واحدة، إضافةً لتوفير الدعم اللوجيستي والاستخباري للجبهة الرئيسية.
وبالتوازي مع توسيع رقعة المواجهة العسكرية، تركز “القيادة المركزية الجهادية” على توفير الأجواء الملائمة لديمومة واستمرار الصراع عبر تأمين الدعم الدعائي الهادف للحفاظ على صورتها الذهنية/ علامتها الجهادية في عقول أتباعها ومناصريها، بجانب استقطاب الكفاءات البشرية الموجودة في نطاق عمل أفرعها المختلفة، وتوظيفها في عملياتها والاستعداد لمرحلة الحسم والتمكين عملًا بمبدأ الإعداد من خلال المعركة الذي صاغه منظر القاعدة الاستراتيجي “أبومصعب السوري” ضمن أطروحاته في كتاب “دعوة المقاومة الإسلامية العالمية” والذي يشمل تدريب وإعداد الكوادر العسكرية والأمنية وبناء شبكات الدعم اللوجيستي، وتوظيف المجموعات المحلية لخدمة المشروع العالمي.
كما تنص “نظرية الذراعين” على توظيف العمليات النفسية في تحقيق الأهداف التنظيمية عن طريق بث الخوف ونشر الفزع في صفوف المدنيين داخل الدول المحاربة لداعش، والتركيز على نشاط المفارز الأمنية العاملة داخل الدول المعادية له والتي يناط بها تنفيذ هجمات محددة للضغط على هذه الدول وإرغامها على عدم المشاركة في العمليات العسكرية ضد “معاقل الجهاديين”.
وتهدف النظرية، إلى الوصول إلى “نقطة انكسار العدو” عن طريق سلسلة طويلة من العمليات على جبهات الاستنزاف المفتوحة، وبالتالي الاتجاه نحو استعادة السيطرة المكانية الكاملة وإنشاء خلافة جديدة، وفقًا لما أكده “أبوالحسن المهاجر”، المتحدث السابق باسم داعش (2016: 2019)، في آخر كلماته الصوتية (صدق الله فصدقه) التي بثتها مؤسسة الفرقان في مارس/ آذار 2019، بالتزامن مع خسارة التنظيم لآخر معاقله في سوريا.
وبحسب “المهاجر” فإن التنظيم يخوض حربًا مفتوحة متعددة الجبهات تحت قيادة وراية واحدة ويعمل على استنزاف “العدو” ونقل المعارك من ساحة لأخرى لأن قادة التنظيم أردوا أن تتسم الحرب الجديدة بـ”مطاولة العدو ومراغمته في كل مكان وشبر من الأرض واستنزاف طاقاته ومقدراته”، على حد تعبيره.
ولجأت خلايا ومفارز داعش المتواجدة داخل مناطق انتشاره في دول عدة، لإطلاق ما أسمته بـ”غزوات الاستنزاف المنسقة“- بتوجيه من القيادة المركزية في سوريا والعراق- والتي تتضمن هجمات متزامنة خلال فترة محددة في أكثر من بقعة جغرافية.
وصُوحبت تلك الهجمات الإرهابية بنشاط دعائي مكثف فسلطت آلة داعش الإعلامية الأضواء على “غزواته المنسقة”- التي وصفها أبوبكر البغدادي- في خطابه (قل اعملوا) الصادر عن مؤسسة الفرقان في سبتمبر/ أيلول 2019- بـ: “الأولى من نوعها في التاريخ الجهادي المعاصر”، كما غطتها صحيفة النبأ الأسبوعية والمكاتب الإعلامية الداعشية التي نشرت سلسلة إصدارات مرئية بعنوان “ملحمة الاستنزاف”.
استغلال الصراعات المحلية
وفي هذا الإطار، عمد داعش لاستغلال النزاعات المحلية في بعض الدول الإفريقية والآسيوية لتوسيع دائرة انتشاره وتوسيع رقعة جبهات المواجهة المفترضة مع أعدائه، مستفيدًا من علامته الجهادية ذات الصبغة والبعد المعولم.
ونجح التنظيم في استقطاب مجموعات وتنظيمات محلية في مالي والكونغو وبوركينا فاسو وموزمبيق وإقليم جامو وكشمير المتنازع عليه بين الهند وباكستان، كما راجت أنباء عن تلقي زعيمه الحالي بيعات من مجموعات مسلحة تنتمي لعرقية الروهينجا الميانمارية وغيرها.
وخلافًا لتكتيكه السابق والمتريث نسبيًا في قبول البيعات، أعلن داعش على لسان المتحدث باسمه أبو حمزة القرشي، في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، قبول بيعات كل المجموعات التي أدت يمين الولاء لزعيمه “أبو إبراهيم الهاشمي”، داعيًا إياهم للسير على نهج التنظيم وشن عمليات استنزاف لخصومه دون السعي لإقامة ولايات مكانية في الفترة الحالية.
ووظف التنظيم منصاته الإلكترونية، بشكل واضح، لإبراز الهجمات والنشاطات التي تقوم بها المجموعات المبايعة له خصوصًا في إفريقيا وآسيا، كما حاول تعزيز صلاته بها وتوجيه الدعم لها عن طريق إنشاء قيادات إقليمية تضم مجموعة من الأفرع الداعشية وتكون تلك القيادة مرتبطة بشكل وثيق بإدارة الولايات البعيدة التابعة للجنة المفوضة (الهيئة الإدارية والقيادية العليا) في التنظيم، وجناح عملياته الخارجية (كحالة ولاية خراسان التي تُشرف فعليا على أنشطة التنظيم في أفغانستان وباكستان والهند وإيران وبنجلاديش وبورما، والتي نقل التنظيم إليها عددًا من قادته العراقيين كما تُظهر تقارير سابقة صادرة عن لجنة الجزاءات المعنية بداعش والقاعدة بمجلس الأمن الدولي- الأمم المتحدة).
سيطرة القيادة المركزية
ولعبت القيادات المكانية الإقليمية، دورًا محوريًا في تعزيز سيطرة قيادة التنظيم المركزية على الأفرع الخارجية وتوظيفها في تحقيق إستراتيجية داعش العالمية والهادفة لاستنزاف خصوم التنظيم، وأدت تلك السيطرة إلى العديد من التحولات الميدانية، فعلى سبيل المثال تحول فرع وسط إفريقيا (ولاية وسط إفريقية الداعشية) من التعاون مع أفرع تنظيم القاعدة المحلية إلى العداء والاقتتال معها بتوجيه من أمراء داعش في العراق وسوريا.
وحرصت القيادة المركزية على إيفاد مبعوثين (عراقيين غالبًا) إلى أفرعها خارج سوريا والعراق، لقيادة تلك الأفرع أو الرقابة على قيادتها المحلية وضمان سيطرة التنظيم المركزي على الموارد والتمويل الخاص بها، إضافةً للتأكد من ولاء قادة تلك الأفرع والتزامهم بالتوجيهات المرسلة من القيادة، وعزل المخالفين لها.
واتبع التنظيم نهجًا براجماتيًا ومتشددًا، في آن واحد، في التعامل مع قادة الأفرع الخارجية/ المحلية، ففي الوقت الذي أبرز فيه جهود عدد من القادة المحليين (كعبد القادر مؤمن أمير الفرع الصومالي)، أقصى التنظيم آخرين (كمولوي ضياء الحق زعيم ولاية خراسان، فرع داعش الأفغاني، الذي عُزل من منصبه بعد زيارة لقادة عراقيين وسوريين إلى أفغانستان)، كما عمل فرع التنظيم في غرب إفريقيا على التخلص من أميره السابق أبو بكر شيكاو، زعيم جماعة بوكو حرام، ومجموعته المنشقة عن التنظيم، بناءً على أوامر وتكليفات من “أبي إبراهيم الهاشمي”، خليفة التنظيم، في تأكيد على النهج الداعشي في استئصال قادة المجموعات المحلية الذين يسعون للابتعاد عن السيطرة المركزية أو الانخراط في تنفيذ إستراتيجية خاصة بهم تتناسب مع أهدافهم المحلية.
وأكدت قيادة التنظيم المركزية، في مناسبات عديدة، على أنها ستتبع مقاربة استئصالية للتخلص من أي مخالفين لنهجها، وحذر أبو محمد العدناني، المتحدث الأسبق باسم داعش، في كلمته الصوتية التي نشرتها مؤسسة الفرقان بمناسبة إعلان الخلافة المكانية (يوليو/ تموز 2014) من أن أي خلاف مع القيادة سيُقابل بالرصاص قائلًا: “إياكم إياكم وشق الصف، ولْتتخطفنّ أحدكم الطير ولا يشق الصف أو يساهم في شقّه، ومَن أراد شق الصف: فافلقوا رأسه بالرصاص، وأخرجوا ما فيه، كائنًا مَن كان، ولا كرامة”.
ومن جهته، شدد أبو حمزة القرشي، المتحدث الحالي باسم التنظيم، على كلمته المنشورة، في 24 يونيو/ حزيران الماضي، على وأد أي محاولة للخروج على “القيادة المركزية”، ناقلًا عن “أبي إبراهيم الهاشمي” إشادته بمقتل أبوبكر شيكاو وعودة من بقي أتباعه في غابات سامبيسا (شمال شرق نيجيريا) إلى صفوف داعش.
ترميم الشبكة المالية لداعش
وفي سياق منفصل، يبدو سعي داعش الدؤوب لاستقطاب مجموعات إرهابية والتمدد إلى ساحات جديدة في قلب إفريقيا وآسيا تحديدًا، مرتبطًا بشكل وثيق بصراعه مع غريمه التقليدي “تنظيم القاعدة” على قيادة الحركة الجهادية المعولمة، وسعي كل منهما لتعزيز شبكاته في المناطق المختلفة، إذ يحاول التنظيمان إيجاد موطئ قدم لهما في دول غرب إفريقيا الساحلية كساحل العاج والسنغال للاستفادة من الموقع الحيوي الذي تشغله هذه الدول في تخطيط وشن الهجمات ضد الدول المنخرطة في عمليات مكافحة الإرهاب، وكذلك استهداف المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة وبالتالي رفع التكلفة العسكرية والسياسية لعمليات مكافحة الإرهاب.
إلى ذلك، منح التمدد الداعشي في مناطق الرخاوة الأمنية داخل قارتي إفريقيا وآسيا فرصة للتنظيم لإعادة بناء وترميم شبكته المالية، بعد خسارة جزء من موارده الاقتصادية التقليدية داخل سوريا والعراق، وركز التنظيم بشكل لافت على التوسع تجاه المناطق الغنية بالثروات التي يمكن توظيفها لتمويل عملياته الإرهابية في جميع أنحاء العالم.
وتشير تقارير لجنة الجزاءات التابعة لمجلس الأمن الدولي إلى أن داعش احتفظ بشبكات مالية غير رسمية، بعد انهيار خلافته المكانية، ووظفها لنقل الأموال داخل مناطق سيطرته، موضحةً أنه يمتلك احتياطي نقدي يصل إلى 100 مليون دولار.
ورغم الاحتياطي النقدي الكبير الذي يملكه، إلا أن داعش سعى لتنويع موارد الاقتصادية والاعتماد على مصادر تمويل جديدة بخلاف مصادره التقليدية، ففي جنوب آسيا، أنشأ تنظيم ولاية خراسان (فرع داعش المحلي) شبكات للإتجار في الأخشاب المهربة من غابات كونر الأفغانية إلى باكستان
وفي ولاية وسط إفريقيا توجه داعش نحو السيطرة على مشروعات الغاز في مدينة بالما الموزمبيقية (على الساحل الشمالي الشرقي لمقاطعة كابو ديلجاو شمالي البلاد)، كما عمل فرعه في الكونغو على استخراج الذهب والاتجار في الأخشاب والعاج وسيارات الأجرة والدرجات النارية، وكذلك واصلت مجموعاته الأخرى في إفريقيا جني الأموال عن طريق عمليات النهب والخطف والفدية وفرض الضرائب والإتاوات على السكان المحليين.. إلخ.
وعلى نفس الصعيد، انعكست الانتعاشة المالية لداعش على قدراته العملياتية داخل مناطق متفرقة من قارتي إفريقيا وآسيا، وتطورت التهديدات التي تُشكلها أفرعه الخارجية في تلك المناطق، بحسب ما ذكره مسؤولي/ وزراء التحالف الدولي لحرب داعش (عملية العزم الصلب) في اجتماعهم الأخير الذي عُقد بالعاصمة الإيطالية روما أواخر يونيو/ حزيران الماضي.
وفي حين أكد الوزراء المشاركون في الاجتماع أن داعش لم يعد يسيطر على أي أراض داخل سوريا والعراق، أعلنت دول بالتحالف الدولي (منها بريطانيا) تخصيص موارد جديدة لمكافحة خطر الإرهاب المتنامي في إفريقيا، ليلتقط داعش هذه الإعلان ويروجه عبر صحيفته الأسبوعية كدليل على نجاح وتأثير خطته الاستنزافية قائلًا: “كيف لمن غرق في براري العراق والشام أن ينجو من مستنقعات إفريقيا والساحل وشرق آسيا وغيرها من الولايات.. فالملاحم قادمة والأيام بيننا”.