الفصل الأخير للقاعدة والظواهري
يُجمع المراقبون الموضوعيون أننا نشهد الفصل الأخير لكل من أيمن الظواهري وتنظيم القاعدة، فماذا يمكن أن تكون الخطوة الأخيرة للظواهري كرئيس للتنظيم؟ وما الذي يراه كجزء من إرثه؟ وما نوع المنظمة التي يرغب في تركها وراءه؟ وكيف يؤثر اتفاق السلام مع طالبان على القاعدة؟ أسئلة عدة تتعلق بالحياة أو الموت بالنسبةللقاعدة وأتباعها. في تحليلنا، سنحاول تبيان أنه بالنسبة لأي شخص لديه رؤية واضحة، فإن الظواهري بات يكشف عن أدلة عديدة تفضح نواياه.. إنها لعبة لن يحبها الكثيرون من أنصار القاعدة.
إذا كان هناك من يرى بوضوح حتمية نهاية القاعدة، فينبغي أن يكون أيمن الظواهري، فإيقاف ما لا مفر منه، هو أمر يفوق سلطته، وبالتالي فهو سيفعل كل شيء لإخفاء تلك الحقيقة، ولكن كيف؟
بالنسبة لأولئك الذين لا يهتمون بخداع أنفسهم، هناك دلائل واقعية واضحة على أن الظواهري عازم على تهيئة الأجواء لإعلان إلغاء القاعدة. وهذا يستحق مناقشة جادة، فمثل هذا النهج قد يناسب الظواهري لكنه هل سيرضي أعضاء القاعدة والمتعاطفين معها؟ وكيف سينعكس ذلك على تحالفات القاعدة؟ هل سيتجه المنتسبون أكثر نحو مصالحهم الذاتية الآن بعد أن أصبحت خطط الظواهري المستقبلية غير مقبولة لديهم؟ وهل سيتصدى زعيم التنظيم لهذا الجدل؟ وإذا سكت ولم يحرك ساكناً أفلا يؤكد شكوك الأعضاء بأن وقت حل التنظيم يقترب بسرعة؟! فلنبدأ بالإشارات التي أرسلها الظواهري في الآونة الأخيرة:
الظواهري وقادة التنظيم أنفسهم يشيرون إلى نهاية القاعدة
يلفت تحليل آخر تصريحين للظواهري، إلى أن زعيم القاعدة يحاول إرسال رسالة خفية إلى رتب التنظيم مفادها أن القاعدة ستُحل وربما ستحاول بعد ذلك العودة كشكل أكثر ليونة.
استراحة نظيفة
إن رفض الظواهري إصدار البيانات أمر مريب تمامًا، وندرة الرسائل هي رسالة في حد ذاتها، فعلى الرغم من الضغوط الهائلة في الماضي، أصدر الظواهري باستمرار أكثر من 10 تصريحات كل عام لعدة سنوات.
رسائل خفية في خطابات الظواهري
توضح دراسة حديثة لآخر بيانين علنيين للظواهري، كيف يسعى إلى توجيه الجماعة بعيدًا عن الماضي والقيام بخلق كيان استراتيجي وأيديولوجي بعيد عن إطار القاعدة النموذجي. وفيما يتعلق بالاستراتيجية، فهو يبتعد عن “العدو البعيد” أي الغرب ويحاول تسليط الضوء على العدو القريب أي الأنظمة العربية أو الإسلامية التي يعتبرها فاسدة، وهو تحول يمكن اعتباره جوهري في استراتيجية القاعدة.
وفيما يتعلق بالإيديولوجيا، فهو يسعى إلى التخفيف من حدة ما يسمى بالإيديولوجية الجهادية السلفية للقاعدة، ويعلن أن التنظيم منفتح الآن على التعاون مع الجماعات وربما حتى الأنظمة ذات “التوترات الأيديولوجية” المتنوعة.
ومن دون أدنى شك، فإن الظواهري يدرك أنه بحاجة ماسة إلى أي نوع من الدعم، وبصفته متلوناً، فهو على استعداد مرة أخرى لاتباع كل طريقة ممكنة تكفل بقائه، وبقاء ما تبقى من نفوذه.
الرسالة الخفية الأولى: “صفقة القرن أم حملات القرون”
بيان الظواهري في سبتمبر 2020:
ينقل الفيديو رسالتين ضمنيتين، الأولى أن القاعدة تسعى إلى إجراء تحول استراتيجي جوهري عبر الانتقال من التركيز على “العدو البعيد”، أي الغرب، إلى “العدو القريب”، أي الأنظمة العربية والإسلامية والتي لطالما اعتبرها الظواهري فاسدة إلا أنها كانت بالنسبة للقاعدة أولوية ثانوية.
وفي 6 دقائق، ألمح الظواهري إلى ذلك عندما أخبر أتباعه أنه يجب عليهم أولاً “التعرف على عدوهم”. الغريب، لماذا يحتاج الظواهري حتى إلى “تحديد العدو” بعد عشرين عامًا من أحداث الحادي عشر من سبتمبر وبعد مرور 30 عامًا على تأسيس القاعدة؟!
ما سبق لا يمكن تفسيره إلا أن الظواهري بدأ يشير إلى تحولات كبيرة في النظرة الإستراتيجية والايديولوجية للجماعة. فعلى سبيل المثال، عند التحدث عن الأعداء في خطابه، يلمح الظواهري أولاً إلى “أكبر المجرمين”، في إشارة إلى الغرب، – العدو الأساسي التقليدي للقاعدة – لكنه يضيف كخيار ثانٍ، “الدول التي تتبع القوى الغربية والعالمية الكبرى”، والتي تدعي الدفاع عن الأمة – إشارة إلى الدول العربية والإسلامية- ومن ثم يتعمد تجاهل المجموعة الأولى، ويركز بشرحه على المجموعة الثانية! تركيز زعيم القاعدة واضح تمامًا – فهو في الوقت الحالي يحول انتباه جمهوره إلى “العدو القريب” للمرة الأولى على الإطلاق.
الرسالة الضمنية الرئيسية الثانية، هي أن الظواهري يعلن صراحة أن تنظيمه جاهز الآن للعمل مع أي جهة أو شخص، سواء كانت مجموعات أو كيانات تابعة للدولة، ومن الواضح أنه يحرك منظمته نحو المزيد من الاعتدال.
واللافت قيام الظواهري بإجراء مراجعة منهجية لعمل القاعدة مع ما يعتبره مجموعات منحرفة وأنظمة عميلة”، إذ جاء ذلك في سياق دفاعه عن التنظيم ضد مزاعم قناة الجزيرة، بأن القاعدة “عميل” لنظام عربي!.. ذلك شكل ادعاءً لا أساس له من قبل تلك القناة، ولم يأخذه أحد على محمل الجد، وربما تساءل المرء عن سبب تخصيص الظواهري لأهم رسائله في العام الماضي- الرسالة السنوية للقاعدة في ذكرى 11 سبتمبر – في محاولة تفنيد فيلم وثائقي غير مهم على قناة الجزيرة تم عرضه عام 2019.
وفي الواقع، يحاول الظواهري استخدام سياق هذا الفيلم الوثائقي، كأداة للتدليل على من يسعى التنظيم للعمل معه، وباختصار، يقول الظواهري إن القاعدة مستعدة الآن للعمل مع أي شخص وكل شخص لا يعارض التنظيم بشكل مباشر.
الظواهري حاول التلاعب بالحقائق، وخاصة الاتهامات الموجهة للقاعدة حول صلتها بإيران!، وهنا حاول الظواهري تبرير علاقة القاعدة مع طهران والجماعات والكيانات الأخرى ذات الميول الأيديولوجية المتنوعة.
الرسالة الخفية الثانية: جرح الروهينغا هو جرح الأمة
بيان الظواهري مارس 2021
بدى واضحاً أن كلمة الظواهري في هذا البيان، لم تكن مهمة، كان من الواضح للجميع أن تعليقات الظواهري قديمة، وركز معظم المحللون على عدم تقديم زعيم القاعدة أي شيء جديد وكانت الرسالة مؤشرا على تراجع الظواهري وتنظيمه.
وبمراجعة دقيقة مرة آخرى لسرد الظواهري في بيان 11 سبتمبر، يمكن أن نلحظ حقيقة بالغة الأهمية وهي أن زعيم التنظيم ركز مرة أخرى وبشكل واضح على أن القاعدة تبتعد عن استهداف “العدو البعيد” والتركيز على”العدو القريب”، والحقيقة أن الرسالة الأخيرة التي صدرت في شهر مارس الماضي، تغفل على عكس كل رسائل الظواهري السابقة، تسمية أو إعطاء أي أهمية لـ “العدو البعيد”، وهذا غير مسبوق وفق أدبيات وخطابات القاعدة، وبدلاً من ذلك، تركز الرسالة بالكامل على ضرورة تركيز أعضاء القاعدة جهودهم على وقف “الحكومة البوذية الإجرامية” في ميانمار. فهل أصبح الظواهري فجأة قصير النظر لدرجة أنه يركز فقط على بلد في جنوب شرق آسيا، أي ميانمار؟!
وهنا نقف لنطرح التساؤل التالي: هل نسي الظواهري “الجهاد” ضد الغرب والذي كرس حياته من أجله وما زال يعزف عليه في كل بيان؟!
ختام الرسالة الثانية شكلت نقطة بالغة الدقة والأهمية، وهي ذاتها في فيديو “صفقة القرن”، وهي أن الظواهري وتنظيمه مستعدون للعمل مع أي جهة وأي شخص أو كيان، وهنا نشير إلى تسليط الفيديو الضوء على مقتطفات من برنامج حواري فرنسي ينتقد فيه خبراء “الإسلام السياسي” ويعتبرون أنه – أي الإسلام السياسي – مع الإخوان المسلمين على قدم المساواة مع المتطرفين، مثل القاعدة وداعش.
الفيديو الذي تضمن تعليقاً صوتياً، حث الراوي على الفور بعد بث الحوار السابق، أنه:
“يتوجب على أولئك الذين يعملون من أجل القضية الإسلامية أن يتحدوا في صفوفهم، بغض النظر عن جنسياتهم وميولهم الأيديولوجية، لأن العدو لم يعد يميز بينهم. “
وهنا نتساءل، لماذا تفجر هذا الغزل المفاجئ مع جماعة الإخوان، وهي جماعة ذات “ميول أيديولوجية” مختلفة؟! علما أن تلك الجماعة كانوا هدفا مفضلا لهجوم الظواهري منذ عقود!! وكان كتابه الأول، “الحصاد المر” مكرسًا بالكامل لمهاجمة الإخوان ووصف ما كان عليه ككيان فاشل وغير فعال، إضافة إلى تخصيص مقاطع فيديو صادرة قبل وبعد اندلاع الثورات العربية لاستدعاء إخفاقات وأوجه قصور جماعة الإخوان المسلمين! والآن، الظواهري يسعى إلى الاتحاد مع من لهم “ميول أيديولوجية” مختلفة؟! ماذا حدث لخطاباته السابقة عن ضرورة اتباع أيديولوجية صارمة؟ الحقيقة هي أن الظواهري بات يرى نهاية التنظيم وبات يستوعب كذلك ما تبقى من أوراق بين يديه.
تغيير في الإستراتيجية والايديولوجيا
ونعود لنطرح السؤال ذاته، لماذا تسعى القاعدة لتغير ايديولوجيتها؟ لماذا تحاول تغيير التركيز الاستراتيجي من “العدو البعيد” إلى “العدو القريب”؟ لماذا تُذيع وتعلن أن القاعدة مقبولة للغاية ومنفتحة للعمل مع العديد من “الجماعات المنحرفة” و “الأنظمة العميلة” وأولئك الذين لديهم “ميول أيديولوجية” مختلفة؟!، والجواب على ما سبق بكل بساطة لأن القاعدة وصلت إلى مراحلها الأخيرة، والظواهري وأمثاله يعرفون ذلك أفضل من أي شخص آخر، ويسعون إلى إفهام من بقايا من القاعدة لقبول هذا الواقع، إن جوهر حل التنظيم هو بالطبع اتفاق السلام الأفغاني.
ويدرك المراقبون أن الأساس الذي يحمله إطار القاعدة بالكامل، هو مبايعة الظواهري والقاعدة لأمير طالبان وما يسمى بـ “الإمارة الإسلامية”، إلا أن حجر الزاوية ذاك للقاعدة والتحالف بينها وبين وطالبان تم القضاء عليه من خلال اتفاق سلام طالبان. ولأن تلك الحركة توقفت عن الصراع مع الغرب، فإن القاعدة والظواهري ملزمون الآن عبر بيئتهم بوقف الصراع مع الغرب. بعبارة أخرى، القاعدة انتهت، وهو التفسير المنطقي لماذا امتنع زعيم القاعدة عن بث أية رسائل جديدة.
والأحرى بالنسبة لمقاتلي القاعدة أن يسألوا الظواهري وفريقه عن سبب عدم قدرتهم على فتح أفواههم، بدلاً من مهاجمة وسائل الاعلام المناهضة للتشدد.
ماذا حدث لبيعة الظواهري لزعيم طالبان؟
مسألة البيعة تلك تعتبر أصل وجذر مشاكل الظواهري الحالية:
- الظواهري بايع زعيم طالبان هيبة الله أخوندزاده في مايو 2016.
- صدرت البيعة في وقت قياسي، بعد أسابيع قليلة من تولي أخوندزاده قيادة طالبان.
- لم يتم التجاوب مع البيعة أو الاعتراف بها من قبل طالبان منذ صدورها.
ومن المرجح أن تقوم طالبان بإجبار القاعدة على حل نفسها أو إعادة تصنيفها والتخلي عن أيديولوجيتها القائمة على تنفيذ هجمات خارجية ضد القوى الغربية. كما أن وجهة نظر الظواهري في الانفتاح على العمل مع أي شخص من “سلالات أيديولوجية مختلفة” توفر غطاءً لطالبان للعمل مع الغرب.
أحد الأشياء التي أظهرتها وثائق “أبوت آباد” من مجمع أسامة بن لادن، هو كيف تحدث الظواهري وبن لادن علانية عن الحاجة إلى إعادة تسمية القاعدة، لأن اسمها أصبح مرادفًا لأعمال العنف المروعة ضد العرب والمسلمين، إضافة إلى الكراهية التي تحظى بها القاعدة على نطاق واسع بين العرب والمسلمين، وربما الظواهري بات يشعر أن الأوان قد حان لإجراء هذا التغيير.
سؤال آخر لابد من طرحه، هل تغيير حال القاعدة أمر طوعي أم أن الظواهري أجبر عليه؟
وفي هذه الحالة نلاحظ أن الظواهري عالق بين بديلين سيئين، فيجب عليه إما أن ينبذ أيديولوجيته العنيفة وخطته الإستراتيجية طويلة المدى لمهاجمة “العدو البعيد”، أو أن ينقض بيعته لطالبان، وفي الحالة الأخيرة هل يمكن له أن ينقض البيعة؟!
بالطبع لا! وهنا نستذكر عددًا لا يحصى من المهاترات والتوبيخ العلني لداعش وجبهة النصرة (أبو محمد الجولاني) في سوريا لمخالفتهما تعهداتهما له، ولا توجد طريقة يمكن للظواهري من خلالها قطع العلاقات مع طالبان والاحتفاظ بأي قدر من الكرامة أو الاحترام. ثم هل يمكن لزعيم القاعدة الخروج وإدانة طالبان بسبب اتفاق سلام يقضي على طالبان ويقضي على القاعدة بالكامل؟ بالطبع لا! لديه خيار واحد فقط: حل القاعدة على الأقل ولو اسمياً.
الزعيم الخاسر والأتباع الخاسرون
باختصار، الظواهري يقول لكل من يريد أن يسمع ويرى: تنظيمه انتهى، وهناك مخرج واحد فقط: إعلان إفلاس القاعدة وإنشاء كيان جديد.
ولكن متى سيدرك دعاة القاعدة، أن التنظيم يقوده زعيم خاسر؟ هذا إذا كانت لهم آذان يسمعون بها وأعين يرون بها؟