منذ انطلاق العدوان الروسي على أوكرانيا اتخذ الأعضاء الـ27 في الإتحاد الأوروبي قراراً فوريّاً بدعم أوكرانيا ومساعدتها في الحرب ضدّ روسيا. وقد أقرّ الإتحاد مجموعة كاملة من العقوبات الإدارية والسياسية والمالية ضدّ روسيا والزعماء الروس، مستهدفاً الإقتصاد الروسي، كما قدم مساعدات مالية كبيرة لأوكرانيا بالإضافة إلى الأسلحة والمساعدات العسكرية.
القوة الروسيّة وحشيّة وسلطويّة وهي تقف وجهاً لوجه مع أوروبا
هيرفيه دو شاريت.
كلّ ذلك على أهميته، ما كان ليحقق الصمود لأوكرانيا لولا المقاومة التي أبداها جيش الوطني والشعب الأوكراني في وجه الإحتلال، بحسب ما أوضح الوزير الفرنسي السابق لأوروبا والشؤون الخارجية هيرفيه دو شاريت.
لكن مع التطورات اليومية التي تحملها الحرب، ما هو مستقبل القارة العجوز؟ هل تتحضر لخوض حرب عالمية ثالثة، خصوصاً مع كلام أنّ العديد من الدول الأوروبية تسعى لتعزيز ترسانتها العسكرية… وماذا عن الأمن الغذائي والنظرة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وروسيا ضمن المجتمع الأوروبي؟
الأوروبيون يدركون الآن أنّ أمنهم يعتمد عليهم أوّلاً
بحسب دو شاريت، “فالأوروبيون يدركون الآن أنّ أمنهم يعتمد عليهم أوّلاً وقبل كلّ شيء، لذلك ثمّة الكثير من ردود الفعل، فبعض الدول الأوروبية التي تسلك طريق الحياد مثل فنلندا والسويد، تريد الإنضمام إلى الناتو، فنحن نرى أنّ حلف الناتو الذي كان يؤدّي ما هو بمثابة المساعدة، نجح فيما بعد بشكل جيّد للغاية، كما قال الرئيس ماكرون، سيحصل موت دماغي إذا لم يحدث شيء. يمكننا أن نرى بوضوح أنّ الناتو يحاول التعافي، فيما ترى الدول الأوروبية أنّه يتعين عليها الإهتمام بالدولة وجيشها وأسلحتها”.
ولفت إلى أنّ “الحالة الأكثر تميّزاً هي ألمانيا التي حرصت منذ العام 1945 على عدم امتلاك جيش جدير باسمه، وما لوحظ هو أنّ الألمان لاحظوا الرأي العام فجأة، واكتشفوا أنّ الجيش الألماني في حالة ضعف شديد للغاية، وأنّ معداته في مستوى منخفض للغاية وفي حالة يرثى لها. بعبارة أخرى، يتعافى الجميع وفرنسا هي في الأساس الدولة الوحيدة التي حافظت على جيشها في حالة جيّدة وبمعدات حديثة، لكن ثمّة أيضاً سؤال، كيف يمكننا أن نقول إنّنا منظمون جيداً للتعامل مع الرحلات الإستكشافية البعيدة إلى حدّ ما في أفريقيا والشرق الأوسط وما إلى ذلك، كما فعلنا على مدار السنوات العشرة أو العشرين الماضية، لكن في ما يخص صراعاً عاماً شديد القسوة ويتعلق بالدفاع عن أراضينا، وربّما أيضاً بالقوّة النووية، فإنّ أجهزتنا في الواقع غير كافية. لذلك لا يستعد الأوروبيون لحرب عالمية ثالثة، فالمسألة ليست كذلك، لا نعتقد أن هذا هو الموضوع، فالموضوع هو الأمن في أوروبا وهو الآن مسؤولية القادة والشعوب الأوروبية”.
الأمن الغذائي
يؤكّد دو شاريت أنّ “محور التركيز في الوقت الحالي هو قدرة أوكرانيا على تصدير قمحها، وبعض المنتجات الزراعية الأخرى المهمّة، فالسهول الكبرى لأوكرانيا معروفة ليس فقط لدى الجغرافيين ولكن أيضاً لدى الكثير من الناس فهي من الأماكن التي يكون فيها إنتاج القمح الأكثر وفرة في العالم ويساهم في إطعام العديد من البلدان التي ليس لدينا فيها قمح ونحتاج فيها إلى القمح. والمثال النموذجي الذي نعرفه جميعاً هو مصر، وهي بلد فقير نوعًا ما يحتاج إلى كميات كبيرة من القمح والذي كان يستورده من أوكرانيا والذي لا يعرف اليوم كيفية القيام بذلك لأن القمح وغيره من الإمدادات الزراعية كان يخرج من أوكرانيا عبر البحر الأسود وميناء أوديسا، وأيضًا عبر ميناء ماريوبول باتجاه بحر آزوف، لكن سواحل أوكرانيا على شاطئ البحر تخضع تمامًا للحصار الروسي، والروس الذين لا يريدون حقاً حلّ تلك المسألة لأنهم هم أنفسهم منتجون للقمح، وإنّ الإرتفاع في أسعار القمح المتأتي من ندرة المنتج تناسبهم جداً وبالتالي هم لا يريدون تحسين الأوضاع في أوكرانيا، ونحن نفهم ذلك”.
الروس أينما وصلوا استولوا على كلّ ما وجدوه هناك خصوصاً على احتياطيات القمح التي يحاولون بيعها لأي مشترٍ يعثرون عليه
هيرفيه دو شاريت
أمّا عن المعلومات التي تشير إلى أنّ الروس يسرقون القمح الأوكراني ويبيعونه في دول مثل سوريا، فقال: “ليس لدي أي معلومات خاصة من أيّ نوع حول ذلك الموضوع، لكن ذلك لا يفاجئني فأنا متأكّد من أنّ الروس أينما وصلوا، على شواطئ بحر آزوف على وجه الخصوص وفي ماريوبول أيضاً، استولوا على كل ما وجدوه هناك، خصوصاً على احتياطيات القمح التي يحاولون بيعها لأي مشترٍ يعثرون عليه”.
وأضاف: “ثمّة نقطة لا بدّ من أخذها بعين الإعتبار فعلاً، وهي أنّه يوجد في العالم العديد من الدول التي لا ترغب بالإنضمام لا إلى الولايات المتحدة ولا إلى أوروبا في ما يخص تطبيق العقوبات التي اتخذناها، والتي لم تؤخذ ضمن إطار محدّد، كون روسيا تتمتع بحقّ النقض وبالتالي فالكثير من الدول لم ترغب في الانضمام. وهذا يعني على المستوى العملي أن ثمة دول تريد القمح ولا تشعر بالحرج بالبحث عنه في روسيا، فالكثير من الدول تنظر إلى عمق الأزمة وكأنها شيء لن يكون له تداعيات كثيرة عليها”.
وتابع: “على أي حال، سيستمر الإرتفاع في الأسعار والطاقة وما إلى ذلك، لكن تلك الدول لا تريد اتخاذ موقف مع أحدهما ضدّ الآخر باعتبار أن هذا الصراع هو في الأساس صراع في القارة الأوروبية تشارك فيه روسيا والدول الأوروبية والأمريكيون، ما يعني أن الصراع هو بين الغرب وروسيا وليفعل كل طرف ما يريد. علماً أن بعض الدول تذهب إلى أبعد من ذلك وتميل إلى تفضيل علاقاتها مع روسيا، كالهند على سبيل المثال، فالهند التي كانت شريكًا دائماً ووثيقًا لروسيا منذ استقلال الهند وهي تحافظ حتى اليوم على تلك العلاقات وبالتالي فهي لا تنضم إلى غيرها من الدول في تطبيق العقوبات المفروضة ضد روسيا”.
المعارضة في الداخل الروسي
في ما يخص المعارضة في الداخل الروسي، يقول دو شاريت إنّ “هناك أشخاصاً معارضين، وأعتقد أنّه كلّما طال أمد الحرب زادت المعارضة بشكل طبيعي، فعندما تصل النعوش إلى القرى والأحياء والمدن وما إلى ذلك، سيسبّب ذلك ارتباكاً وقلقاً بالطبع لدى السكان، وبالتالي أعتقد أنّ هناك معارضين اليوم أكثر ممّا كان هناك في بداية العمليات العسكرية”.
وأضاف: “لكنني أعتقد في الوقت الحالي أنّ بوتين يحظى بدعم غالبية كبيرة، وربّما حتى غالبية كبيرة جداً من السكان، ويعود ذلك إلى تزويدهم بالقليل من المعلومات، ونقل المعلومات لهم بشكل سيء، والتضليل من قبل وسائل الإعلام الروسية، ومن بين تلك الممارسات أيضاً التطهير الذي قامت به السلطات الروسية قبل بدء العمليّات العسكرية وما إلى ذلك من منع وقمع وسجن حتى أنّ بعض وسائل الإعلام المستقلة اختفت”.
ولفت إلى أنّ “كلّ التعليقات والخطابات التي يلقيها بوتين تُظهر أنّه مرتبط بفكرة معينة حول روسيا والتي هي في الأساس روسيا السوفياتية غير أن روسيا في فكر بوتين هي أسوأ في بعض النواحي، لأنه في النظام السوفياتي كان هناك عمل جماعي ومجتمع معين من القادة، لم يكن ستالين وحيدًا لقد كان قويًا جدًا وخطيراً للغاية بما في ذلك المقربين منه، لكنه لم يكن وحيداً تماماً. بينما اليوم إن بوتين وحيد تماماً، ففي كل مرة نرى بوتين، نراه وحيداً في الصحراء السياسية للبلاد، هو يهدّد الصحافيين والأوليغارشيين مُظهراً القسوة نفسها. إنه شخصية غريبة”.
لا يجب أن نعمي أنفسنا عن ماهية القوة الروسية التي هي في الوقت نفسه وحشية وسلطوية وهي تقف وجهاً لوجه مع أوروبا
هيرفيه دو شاريت
وزير الخارجية الفرنسي الأسبق
وتابع: “صحيح أنه في أعماقنا، ترك بوتين لدينا على مدى تلك السنوات الطويلة الكثير من القلق بشأن هويته، وهذه الحرب هي بالنسبة للعديد من الأوروبيين صحوة وحشية. كان هناك الكثير من الأشخاص المؤيدين لروسيا في أوروبا وفرنسا، حتى أنه كان هناك موالين لبوتين في أقصى اليمين بشكل خاص، وليس هذا فحسب ولكن أيضًا في العديد من الدوائر ثمة بعض الانبهار الإيجابي بروسيا وهو ما أفهمه جيدًا، لكن في الواقع روسيا اليوم هي روسيا الحقيقية، وليست روسيا التي حلمنا بها، وليست روسيا التي نقرأها في الروايات العظيمة لتاريخ الأدب الروسي، وليست ذلك النوع من الرومانسية التي ينظر بها المرء إلى روسيا. لا، فروسيا اليوم للأسف هي روسيا بوتين. وخلف كل ذلك طبعاً ثمة نخب من الناس الذين لا يوافقونه الرأي، لذلك يجب أن نحافظ على فكرة إبقاء الروابط مع المجتمع المدني الروسي. لكن لا يجب أن نعمي أنفسنا عن ماهية القوة الروسية التي هي في الوقت نفسه وحشية وسلطوية وهي تقف وجهاً لوجه مع أوروبا”.
أمام كل تلك المعطيات، لمن سيكون النصر أخيراً؟ لروسيا بوتين أم لروسيا التي يحلم بها معارضوه في الداخل والخارج؟