أخبار الان | من الظلمات إلى النور (وثائقيات)

داعش مر من هنا… إبان احتلاله مدينة الموصل، حوّل جامعتها من صرح تعليمي علمي ثقافي إلى مقر للخوف المطلق، ومركز للظلام تعشعش فيه عائلات مسلحيه، ويقيم فيه معسكرات تدريبية. استمرت جامعة الموصل بالعمل معظم الوقت في ظل داعش، لكن معظم كلياتها وخصوصا كليات الآداب والفلسفة والفنون أحرقت أو سويت بالأرض، فيما استمر التدريس في كليات الطب والصيدلة والتمريض والعلوم الفيزيائية بقلة من الهيئة التدريسية التي استطاع معظم أساتذتها الهروب من المدينة. راقب داعش الإنترنت بحزم في الجامعة، وفرض نظاماً مغايراً لما اعتاده الطلبة، فيه الكثير من العقوبات المميتة والمكاتب الإعلامية لنشر الفكر الظلامي. أما مختبرات الجامعة التي استخدمها محاولا إنتاج أسلحة كيماوية، فقد نهبها وأحرقها وسوّاها بالأرض عند دحره من المدينة.

مع تحرير الموصل، بدأت الجامعة تنفض عنها ثقافة التجهيل والعنف التي خيمت فوق سمائها، لتعود صرحاً يخدم المجتمع والوطن بالفكر والبحوث والاختراعات والصناعات. لكأن الثور المجنح لاماسو، قد عاد بشجاعته وقوته ومجده وحكمته ليصول في أرجائها ويحميها.

وسط الأزمة التي تبعت جائحة كوفيد ١٩ في كل نواحي الحياة ومن بينها القطاع التعليمي، لم تقف جامعة الموصل عاجزة عن إيجاد الحلول لطلبتها. تم إطلاق مبادرة التواصل الإلكتروني بين الأساتذة والطلبة إثر تبني وزارة التعليم العالي والبحث العلمي قرار التعليم الإلكتروني. وجرى رفع آلاف المحاضرات على المنصة التعليمية الإلكترونية حتى أصبحت جامعة الموصل الأولى في العراق من حيث عدد المحاضرات الإلكترونية. وتعتبر رئاسة الجامعة أنهم واجهوا إشكاليات التعليم الإلكتروني بنجاح، ومن ضمنها إجراء الامتحانات إلكترونياً.  ويضمن سير عمليات الامتحانات مركز العمليات الإلكترونية حيث يمكن أن يتابع كل طالب على حدة.

بمساهمة من المجتمع الدولي لإعادة إعمارها، انخفضت نسبة الدمار في جامعة الموصل إلى عشرين في المئة. المساهمة الرئيسة هي من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ( يو أن بي دي) الذي يمول حوالى خمسين مشروعا، وأيضا هناك مساهمة من هيون أبييل. كما أن دولة الكويت ساهمت في منحةٍ للمختبر في كلية علوم البيئة وكلية هندسة النفط والتعدين اللتين كانتا مدمرتين بالكامل.

لم يكن أحد يتوقع أن تستعيد جامعة الموصل دورها التعليمي والعلمي والثقافي قبل عشر سنوات، كما أخبرنا رئيسها. هذه الجامعة بيته. هنا قضى شبابه كله. فهنا درس حتى نال شهادة الدكتوراه قبل أن يلتحق بدراسات ما بعدها في الخارج. نواصل معه زيارة كليات الجامعة ومنها كلية التمريض حيث الطلبة يعملون مع الفرق البحثية وأعضاء الهيئة التدريسية لإنتاج عدد من المعدات التي يحتاجها المجتمع وقطاع الصحة.

تنتج كلية التمريض كذلك الأقنعة الواقية للوجه التي كثر الطلب عليها بسبب جائحة فيروس كورونا. بالتالي فإن كل ما ينتج في الجامعة يساهم في تخفيض التكاليف على الأهالي. جهزت الكلية كذلك بأجهزة تدريبية متطورة مخصصة لطلبة الماجستير، منها أجهزة لتشريح الجثث وعلاج الحالات المرضية الأكثر تعقيدا.

تواصل جامعة الموصل إصرارها على محو الضرر الذي تركه داعش الذي حاول بجرائمه في حرمها تشويه سمعتها كذلك. هناك ٨٦ مشروعا عاملا قيد الإنجاز، معظمها مشاريع إنشاء الأبينة المدمرة والمختبرات. كما هناك المرحلة الثالثة من مشروع “كاش فور وورك” الذي يعتمد على اليد العاملة النسائية، ويموّل من يو ان بي دي. ونحن نتجول، يخبرنا دكتور قصي أن محطات الاتصالات والكهرباء وكليات الصيدلة وطب الأسنان وعلوم الحاسوب والرياضيات والآثار والتربية الإنسانية كانت مدمرة بالكامل، أما البناية الأصلية لكلية الزراعة فاستخدم له تعبير “أبيدت”، كذلك بالنسبة يقسم الهندسة الكهربائية الذي وصفه بأنه “اختفى من الوجود”. مع استمرار مشاريع إعادة الإعمار بشكل حثيث، بدأت مختبرات الجامعة بإنتاج المعقمات، أكثر مادة مطلوبة في الوقت الحالي.

إثر جائحة كوفيد ١٩ ارتفع سعر الليتر الواحد من معقم الإيثانول إلى عشرين دولار. عند نجاحها بإنتاجه، قامت جامعة الموصل بتوزيعه مجاناً على محافظة نينوى، وستقوم بتسليم الدفعة الثانية من الإنتاج إلى وزارة الصحة لاستخدامه في مرافقها. كما نجحت فرقها البحثية في إنتاج وسيط عينة فحص فيروس كورونا.

لعل قدرة جامعة الموصل على صنع جهاز تنفس صناعي خفيف الوزن بواسطة طابعة ثلاثية الأبعاد يؤكد مساهماتها في إعادة الحياة للموصل والعراق. وتنتظر الجامعة شهادة وزارة الصحة وموافقتها على هذا الجهاز لتقدم طلباً لوزارة الصناعة للسماح ببدء تصنيعه. كما تولي بحوثها العلمية في مجال الزراعة وسط ندرة المياه اهتماما خاصا.  نريد جيلاً فاعلاً في المجتمع، هدفه إيجاد الحلول لخدمة المواطنين والوطن..  بعد ذلك، سيكون داعش مجرد عاصفة سوداء من العواصف التي مرت بالموصل عبر التاريخ.. دحرت، وبقيت الموصل.