أخبار الآن | وثائقيات 4-7-2019
السلام يعمُ المكان هنا في جنبات جبلِ سنجار. قممُ الجبل ووديانُه تنعم بهدوءٍ لا يقطعُه سوى أصواتِ الطبيعة.. حفيفِ أوراق الشجر، زقزقةِ عصافير، غثاءِ بعض الخراف والماعز، وخريرِ نبع بيرخايي، ومن وقت لآخر الحديثِ اليومي لأهل القرى المتناثرة في سفوحه ووديانه..
هذا الوادي الشاسع في منطقة سردشتي يسكنهُ الصمتُ بشكلٍ كبير حتى تكادَ تعتقدُ أن شيئا لم يحدث، وأن داعش لم يجتاح المنطقة ويقتل رجالَها ويسبي نساءَها في ذلك الصيف اللاهب من عام ألفين وأربعةَ عشر.
وسط هذا الصمتِ الممتد بامتداد مخيم سردشتي والوادي الذي يحتضنُه، تغفو عشراتٌ من قصص الهروبِ من الموت على يد مسلحي داعش. قصصٌ تحاول أن تنام في ذاكرة أصحابها النازحينَ من قراهم إلى حيث الأملُ بالحياة. تغمض أجفانُهم على أحلام الكوابيس التي مروا بها.. عطشٌ شديد وجوعٌ ولهيبُ صيف وقيظ.. موت أحبةٍ وأهل في رحلة الهروب نحو الجبل.. لكنهم يصحون على أملٍ يومي بالحياة.. يعيدون نسج َرواياتهم لكل من يريد الاستماعَ إليها، ويمضون في نهاراتهم حيث قرروا الاستيطانَ والبقاء. هنا بالقرب من النبع الذي منحهم الأملَ بالحياة، نبعِ بيرخايي في منطقة سردشتي.
قبل خمس سنوات، كان العابرون على الطريق الإسفلتي الذي يقطع وادي سنجار من شماله إلى جنوبه لا يرون هنا سوى مساحاتٍ جرداءَ قاحلة لا أثر لحياةٍ فيها إلا أشجارَ البلوط والجوز التي تحفُ بالوادي. اليوم، تنتشر على جنبي الطريق خيمَ مخيم سردشتي الذي يقطنُه أكثرُ من ألفين وثلاثمئة عائلةٍ أيزيدية ممن عاشت أهوالَ هجوم داعش على مناطقها. تنبض الحياةُ هنا وتزهر من بين أشواك الألم.
تتمسك العجوز أم ليلى وعائلتُها بالبقاء في وادي سردشتي مع أمل بالعودة لمنزلها يوما ما. ذكريات الهجوم والهروب راسخةٌ في ذاكرتها وذاكرة زوجها سعيد. يرويان لنا بعضاً منها وكيف تمكن ابنُهما من الهروب بعد أن أسره مسلحو داعش. وفيما يحمل أبو ليلى معوله ليواصل يوميات العيش، تأمل أم ليلى بالعودة لقريتها قبل حلول شتاءٍ آخر.
الحياة في المخيمات قاسية ٌعموما، معنويا واجتماعيا واقتصاديا. فأهل المخيمات غالباً تركوا منازلهم رغما عنهم، هربا من حرب وتهجيرٍ قسري وتدمير منازل. وهي قاسيةٌ بنفس الأمر على سكان مخيم سردشتي. تزيدُها قسوةً وصعوبة طبيعةُ الأرض الجرداء ولهيبُ صيفها وبرودةُ شتائها وريحِه القارسة. مع ذلك، فكثيرون قرروا البقاء هنا وبناءَ حياة جديدةٍ لهم.
هذا الجزء من الجبل منحهم النجاةَ واحتضنهم خلال رحلة الهروب من داعش. صحيحٌ أن دروبَه وعرة ومتراميةَ البعد لكنه مليء بالخيرات التي إن أعطوها أعطتهم. وسيتدبرون أمورَ حياتهم ما دامت مياه نبع بيرخايي تعزف لحنَ الحياة في أعلى الوادي.
العجوز الثمانيني خلف رشو، عاش معظم حياته في حوض جبل سنجار. يسمونه هنا حارسَ الجبل. هو يحفظ كل وديانه وممراته عن ظهر قلب، يعرفُها حجرا حجرا مذ كان طفلاً يرافق والدَه الى نبع بيرخايي القديم قدمَ الجبل نفسِه. أو ربما العجوز خلف هو نفسُه الجبلَ بشدته وحنوه وأسراره التي تختزنُها تعرجاتِ تجاعيد وجهه. خفيفاً كالطيور التي تمر بسماء جبل سنجار في مواسم الهجرة، وسريعا كالريح، يقطع خلف رشو الوديان يوميا مشياً على قدميه. لا يذكر كم سنين مرت وهو يسير في هذه الدروب، لكنه غالبا منذ استطاع الوقوف على قدميه طفلا.
رحلة فريقِ قناة الآن للوصول إلى نبع بيرخايي كانت شاقةً ومرهقة مع معدات التصوير. هذا الطريق المتعرجُ هو أحد الدروبِ التي سلكها أهالي قرى جبل سنجار خلال هربهم من اجتياح داعش وتنكيلهِ بهم. سعيُ الفريق على الطريق الميسمي للحاق بحارس الجبل رشو لم يحمل خوفا ولا جوعا أو عطشا كأولئك الذين سلكوه عام ألفين وأربعة عشر.
حارس جبل سنجار خلف رشو كان هنا ساعةَ انطلقت الحرب، وكان حاضرا في كل أيام حصار داعش للجبل. يروي لنا قصة وصول الهاربين من سنجار إلى هذا المكان بعد أيامٍ من العطش الشديد. تلك الأيامُ كانت أقسى ما تختزنه ذاكرةُ هذا الكهل في عمره كله. حينها كان يحمل المياه من مجرى النبع، وكالريح المرسلة يهرول ليسقي العطاشى وقد تساقط معظمُهم على حجارة الوادي من الإعياء.
الماء سر الحياة.. ذلك في كل الأديان. وخلال رحلة هروبهم من جنوب جبل سنجار إلى شماله، عانى العراقيون الأيزيديون العطشَ الشديد. بقوا في هروبهم أكثر من أسبوع، يسيرون في قيظ شهر آب/ أغسطس نهارا، ويبيتون في برودة تجمد أطرافَهم ليلاً. تجرحت أقدامُهم من السير حفاةً على الحجارة ومات مئاتٌ منهم عطشاً. يدين الأحياء منهم لنبع بيرخايي ومياهه التي أحيتهم من جديد. وسيظل هذا النبع يتدفق في ذاكرتهم إلى أن تغفو عيونهم ليذهبوا إلى حيث السلام دائم.