وثائقيات 1-5-2019 | العرس الأخير – نار الفتنة
يُزهر الربيع بصمتٍ مهيب في قرية كوجو.. تفتقد الأزقةُ بين البيوت المدمرة أنغامَ موسيقى أعيادِ الربيع ولعِبَ الأطفال وألوانَ فساتين الصبايا وهن يرقصن في الأعراس.. أهازيجُ الفرحِ التي عمت القريةَ في آخر أعراسها صيف عام ألفين وأربعة عشر، أخرستها رصاصاتُ مسلحي داعش الذين دخلوها آنذاك.. منعوا أهاليها من الخروج ووعدوهم بالأمان..
هناك.. بعيدا جدا جنوبَ جبل سنجار، وقفت كوجو وحيدةً في وجه التطرف..
ليس هنا الآن إلا الصمت.. وبضعةُ ناجين أيزيديين يزورونها من وقتٍ لآخر وقد ألفوا الصمتَ واعتنقوه..
يتفقد الناجون ذكرياتِهم النابتةَ بين الأعشاب.. يرتفع عويلُ النساء والأطفال في مشاهدِ الذاكرة.. إنه الخامس عشر من أغسطس.. يُجمع الرجال والأطفال من سن الرابعة عشرة ويؤخذون بعيدا في شاحنات.. خمسُمئةٍ منهم مكبلي الأيدي يُرمون في حفرٍ حفرها الغزاة.. يُسمع أزيز الرصاص.. ترتجف أعشاب الربيع على وقع صوتِ الذاكرة.. يسود الصمت… لقد أبيدت كوجو.. وسبيت نساؤها..
كُتبت لبعض الرجال النجاةُ من المجزرة التي لحقت بالقرية. أسعفتهم أقدارُهم فخبأتهم تحت جثث ِالقتلى من إخوتهم وأهليهم.. عاشوا ليرووا للعالم قصةَ كوجو وعرسَها الأخير..
علي عباس، واحدٌ من رجال قرية كوجو القلائل الذين كُتبت لهم الحياةُ من وسط المقابر الجماعية التي حفرها داعش. لكن أحداً من عائلته لم ينجُ، فاختار العزلةَ في مخيم شاريا بعد أن فقد الأمل في رؤية ولده الوحيد وابنيته الصغيرتين وزوجته ووالدته.
قبل أن يخرج من الحفرة القبر زحفا مع رفيقيه سعيد مراد ودلشاد، حاول علي البحثَ عن جثة ولده وسط الجثث المتراكمةِ فوق بعضها البعض، لكنه لم يجدها. زحف بعيدا مع الآخرين حتى وصلوا لمزرعةٍ تبعد بضعةَ مئاتٍ من الأمتار عن مكان االإعدام، وبقوا فيها حتى هبطَ الليل. وعند انتصاف الليل، توجهوا إلى قرية القابوسية التي يقطنها أكرادٌ سنة، أملاً في العثور عمن يمد لهم يدَ العون ويخفيهم عن عيون داعش. استضافتهم عائلة كرديةٌ ليلتها، فضمدت جراحَهم وقدمت لهم الطعام، لكن طُلب منهم المغادرة قبل طلوع الشمس لكي لا تواجه العائلة عقوبةً على يد مسلحي داعش.
بقي علي ورفيقُه سعيد ستةَ أيام كاملة مختبئَين في قرية القابوسية، يتنقلان سراً ، كلٌ منهما لوحده، من منزلٍ لآخر بمعاونة أشخاصٍ من الكرد السنة المتعاطفين معهم. مراتٌ عديدة خلال محاولاتهم الليلية للهرب، كانا على وشك الوقوع مجدداً في قبضة داعش. في اليوم السادس، قُدر لعلي عباس أن يجتمع مع سعيد مراد مرة أخرى، وكان مع سعيد هذه المرة أخاه خالد الذي نجى بدوره من المجزرة ِ بأعجوبة، ووصل سراً إلى قرية القابوسية. وفر لهم بعضُ أفراد القرية طريقاً للوصول الى جبل سنجار. ومنه الى الحرية. لكن الحرية التي حصل عليها علي منقوصةً، فهي كمنزله المدمر في كوجو، بلا روح بعد أن فقد عائلتَه كلَها.
تشبه قصة علي في الكثير من تفاصيلها، قصصَ ألاف الأيزيديين الذين فقدوا أبناءهم وبناتِهم ومعظمَ أفراد عوائلهم على يد مسلحي داعش، واضطروا الى الهروب من قبضة داعش والعيش كالأرواحِ الهائمة في أكثرِ من 14 مخيما ومجمعا للنازحين.
بعض الذاكرةِ لا يُمحى.. وسعيد مراد لم ينسَ أي تفصيلٍ من تفاصيل عملية الإبادة التي كان داعش يحاول تنفيذها بحق الأيزيديين. يعيش سعيد الآن مع من تبقى من أقاربه في هذا المبنى غير المكتمل.
تُرهقُه مرارةُ الغدر. ولا يزال سعيد وباقي العراقيين الأيزيديين تحت وطأة آلام الخيانةِ من عراقيين انضموا لداعش وشاركوا الدواعش الأجانب في اختطاف نسائهم وبيعهن سبايا في أسواق المدن التي استولى عليها داعش في سوريا والعراق.
الكثير ممن التقتهم (قناة الان) في أوقات متفرقة، كانوا يفضلون الموتَ جميعا على أن يعيشوا حياة الاستعباد والاذلال وانتهاك الحرمات على يد مسلحي داعش ومناصريهم.
يتحدث سعيد مراد هنا، عن أخته نادية مراد، الناجيةِ العراقية الايزيدية الحائزةِ على جائزة نوبل للسلام لعام 2018. فقد نجحت نادية بعد أن اشتراها سعيد من المهربين، بأن توصلَ حقيقة المأساة التي تعرض لها العراقيون الايزيديون
على يد تنظيم داعش. خطابُها أمام مجلس الأمن الدولي، كان بدايةً لاهتمامٍ دوليٍ واسع بعمليات الإعدام والسبي التي تعرض لها سكانُ قرية كوجو وكلُ المدن والقرى الايزيدية التي انتهكها داعش.
حتى إعداد هذا الفيلم الوثائقي، ما زال مئاتُ الالاف من الايزيديين العراقيين مشردين في مخيمات النزوح،. معظمُهم لا يجد مبررا للعودة الى مناطقهم في سنجار بعد ما تعرضوا له من تعسفٍ وانتهاك على يد مسلحي داعش.
أما اهالي قرية كوجو المنكوبة، فلم يعد أحدٌ منهم إليها بعد بالرغم من مرور عامين على تحريرها من داعش. فلا أحد منهم قادر على دفن الذاكرة ما دامت أرواحُ الضحايا جروحا هائمةً في مقابر جماعيةو تنتظر دفناً لائقا بمراسمِ الإيزيديين وطقوسهم.