وثائقيات | نار الفتنة – 28-2-2019
على امتداد آلاف الكيلومتراتِ في الجزء الشرقي من مخيم سردشتي في جبل سنجار، ما زالت حكايا الموت ِالتي صنعها تنظيم داعش ماثلةً في قلوب العراقيين الايزيديين الذين التجأوا الى هنا هربا من القتل والسبي. أهوالُ ذلك الصيف من عام 2014، التي بدأت فصولُها في الثالث من آب/ أغسطس تركت جروحا غائرةً في أرواحهم وذاكراتِهم.
تقودُنا السيارة الى حيث يقيمُ صانعُ العسل السنجاري المعروف رشمان وأخوه عمر وعائلتاهما منذ عام 2014.
يرويان ذكرياتِ تلك الأيام ويتحدثان عن عدم شعور الناجين المقيمين في مخيم سردشتي بالأمان للعودة إلى ديارهم. بالرغم من إحساسهم بالخذلان من قبل جيرانهم أيام هجوم داعش على مناطقهم في سنجار، فإن الايزيديين يستحضرون مواقفَ العديدِ من إخوانهم العربِ والكرد والتركمان الذين ساعدوهم في ذلك اليوم. صحيحٌ أن عراقيين متطرفين، عربا وكردا، قد انضموا لداعش آنذاك، وآخرون بقوة التهديد والبطش، لكن كثيرين ساندوا إخوانَهم الإيزيديين.
منهم من خبأ عوائلَ إيزيدية بكاملها في منازلهم وهربوها لاحقا. بعضُهم عالج الجرحى والهاربين من داعش وهربهم الى مناطقَ آمنة. وكثيرٌ من هؤلاء قتلوا حين اكتشف داعش ما اعتبره “تواطئا” مع الايزيديين.
عمر وأخوه رشمان، ومعهم الافُ الايزيديين يصرون على البقاء في أعلى جبل سنجار ما دامت الأفكارُ التكفيرية والمتطرفةُ تجد من يغذيها. فهم ما عادوا يثقون بأن محاولةَ إبادتهم، كما حاول داعش، لن تتكرر مرةً ثانية. الحياة صعبةٌ هنا.. سيكون الشتاءُ قاسيا ككل الشتاءات التي تزور جبلَ سنجار. لكن أهل مخيم سردشتي راضون بقسوةِ الطبيعة. هي لهم أكثرُ رحمةٍ مما شهِدوه على يد داعش والمتطرفين.
يهبط بنا الطريق الجبليُ المتعرج الى مركز مدينة سنجار التي تحررت من داعش في نوفمبر 2015 بعد معاركَ شرسة. هذه الطريق نفسُها التي شهدت قبل أربعةِ أعوام رحلةَ الهروب الأيزيدي نحو الحياة. على هذه الطريق أيضا، بدأ التلاميذ العائدون لبلداتهم مواصلةَ رحلة العلمِ قاطعين مشياً على الأقدام عدةَ كيلومترات يوميا للوصول إلى المدارس القليلةِ التي افتتحت أبوابَها للعام الدراسي ألفين وثمانية عشر وألفين وتسعة عشر.
دبت الحياة في بعض أجزاء المدينة من وسط الدمار. للدمار الذي أصاب مدينةَ سنجار التاريخية قصةٌ أخرى. فهي لم تشهد عودةً حقيقيةً للنازحين بالرغم من تحريرها قبل حوالى ثلاث سنوات. مشاهد الدمار حولتها مدينةَ أشباحٍ وقد تبقى كذلك لوقت ليس قصير.
هنا، كما يتذكر داوود، دارت معاركُ شرسة مع داعش قبل أن يتعرض للهزيمة على يد القوات المحرِرة، ويتراجع الى السفح الجنوبي من الجبل. وهنا أيضا، يتركنا الشيخ داوود للعودة عاجلا من حيث انطلقنا في رحلتنا من مدينة سنوني الواقعةِ شمال جبل سنجار.
كاميرا قناة الان اكملت طريقهَا الى قرى جنوبِ سنجار التي تعرضت لهجوم داعش، في الساعات الاولى من صباح 3 من آب/ اغسطس 2014. معظم هذه القرى والبلدات ما زالت غيرَ آمنة، ولم ترفع الالغامُ والمخلفات الحربيةُ منها حتى الآن. هرب العجوز رشو قاسم مع زوجتِه خُناف وأولاِده من هذه القرية باتجاه جبلِ سنجار إبان هجوم داعش.
وبالرغم من كبرِ سنه، فإنه نجح في الوصول مع عائلته الى الجبل. ومن هناك قدر له وآلافٌ آخرون الوصولَ الى سوريا ومنها الى كردستان العراق. وها هو قد عاد إلى قريته القريبةِ من منطقة صولاغ. رمم منزلَه، واشترى بعضَ الخراف وطيورِ البط لتربيتها والبَدء مجددا بحياته البسيطة التي اعتادها طوال سنيّ عمرِه الثمانين. يتذكر رشو وزوجتُه خناف بالتفصيل اللجوءَ إلى جبل سنجار هرباً من هجوم تنظيم داعش.
خلال رحلة الهروب، لم تستطع العجوز خناف السيرَ أكثر، فطلبت من العائلة تركها في الجبل ومواصلةَ السير للنجاة بأرواحهم. وبقيت بحماية المقاتلين من الفصائل الكردية والايزيدية إلى أن وجدوا لها مكانا في إحدى المروحيات القليلة التي وصلت.
لكن المروحيةَ هوت نتيجة العددِ الكبير من الهاربين الذين صعدوا على متنها واستُشهد قائدُها اللواء ماجد التميمي. نجت خناف بأعجوبة من الموت وأصيبت بكسورٍ بالغة. لاحقا، نقلت القوات المنقذةُ العجوز خناف وباقي الجرحى الى مدينة دهوك الحدودية، حيث عولجت وقضت بضعَ سنوات قبل أن تعودَ الى قريتها. في 12 من اغسطس 2014، تمكنت الفصائلُ الكردية التي كانت تحارب تنظيمَ داعش في سوريا، من فك حصار داعش عن حوالى 100 الف عراقيٍ ايزيدي أعلى الجبل دام تسعة ايامٍ كاملة، ونجحت في فتح معابرَ آمنة من الجبل باتجاه الحدود السورية، وأمنت خروجَ الهاربين عبرَها.
كان سعيد رشو، ابنُ العجوزين رشو وخناف، يعمل في مدينة زاخو الحدودية حين وصلته أنباءُ هجوم داعش على سنجار. وعلى الفور توجه الى الطرف الغربي من الجبل حيث كان آلاف الايزيديين ينزلون منه بحماية الفصائل الكردية التي كانت تحارب داعش في سوريا. يتذكر سعيد بمرارة، تلك الايام التي ما زالت تؤلمُه كلما تذكر تفاصيلَها.