وثائقيات | نار الفتنة 21-2-2019
ربعُ مليون عراقي أيزيدي نزحوا من قراهم وبلداتِهم الواقعة شمال وجنوب جبل سنجار، هربا من الموت على يد مسلحي داعش. استطاع حوالى مئة وثلاثين ألفا من النازحين عبورَ الحدودِ نحو سوريا في اليوم الأول لهجوم داعش على الجبل ومحاصرةِ الهاربين بغية قتل الرجال منهم وسبي النساء. أما الباقون الذين لم يسعفْهم الوقتُ للنجاة، فشهدت حجارةُ جبل سنجار على قصصهم.. قصص الجوع والعطش والموت طوال الحصار الذي استمر قرابة عشرة أيام. منذ ذلك اليوم، قتل داعش أكثرَ من ثلاثة آلاف عراقي أيزيدي، واختطف أكثر من ستة آلاف، نصفهم من النساء اللواتي حولهن سبايا، ونحو ألف من الاطفال الذين حولهم قسرا مجندين ومقاتلين في صفوف داعش.
خلف ما ترويه عيونُ الأطفال والنازخين، فصولٌ من أربع سنوات وبضعة شهور. دُحر داعش من سنجار وعادت الحياةُ تلملم نفسَها ما استطاعت في المناطق المحررة. وبقيت تفاصيلُ كثيرة من هذه المأساة مدفونة بين حجارة هذا الجبل البعيد. في رحلة توثيق بعض ما جرى في سنجار، رافق فريقَ قناة الآن داوود الشيخ جندي، أحدُ قادة المقاومة الأيزيدية التي واجهت داعش منذ اليوم الاول لهجومه على سنجار. هو وآخرون نظموا أنفسَهم في معركة استنزافٍ طويلة مع داعش، انتهت بتحرير المناطقِ الشمالية ومركز مدينة سنجار خريف عام 2015. من بين كل المآسي التي مرت على العراقيين الأيزيديين، كما يقول داود ومعظمُ من التقيناهم في سنجار، فإن الإحساسَ المرير بأنهم تعرضوا للغدر حين تركوا لوحدِهم في مواجهة داعش، يظلُ الصدمةَ الكبرى والتي تركت في نفوسهم شرخا عميقا حتى الآن، خصوصا وأن عددا كبيرا ممن انتموا لداعش وهاجموا الأيزيديين، كانوا جيرانا واصدقاء لهم.
نقطةُ التفتيش هذه واحدةٌ من عشرات نقاط التفتيش المنتشرةِ على امتداد الطريق الطويل إلى جبل سنجار. داوود كان مقاتلا إلى جانب هؤلاء الرجالِ المتواجدين في هذه النقطة ويحظى بثقتهم، لذا سمحوا لكاميرا قناة الآن بالتصوير في المكان دون معوقات. يتذكر داوود الشيخ جندي تفاصيلَ اليوم الأول لهجوم داعش على سنجار، وكأنها حدثت في الأمس فقط. فأحداثُ ليلةِ الثالث من آب/ أغسطس والنهارِ الذي انبلج عنها عام 2014، محفورةٌ في ذاكرة الأيزيديين بكل تفاصيلِها.
قادمون بمئات السياراتِ رباعية الدفع ومدججون بالأسلحة الثقيلةِ والمتوسطة، قتل مسلحو داعش أكثر من 700 أيزيدي في اليوم الاولِ من الهجوم، معظمُهم من الشباب والرجال. نفذ داعش حملاتِ إعدامٍ جماعيةٍ بالرصاص وذبحٍ بالسكاكين، وترك الجثثَ مرميةً في الطرقات. وفي الأيام التي تلت، ارتكب عمليةَ إبادةٍ جماعية راح ضحيتها ما بين 3 الاف الى 5 الاف أيزيدي، نصفهم مات جوعا وعطشا خلال رحلة الهروب للاحتماء بجبل سنجار. تحت وطأة حر صيف شهر أغسطس، في وديانٍ لا ظلَ فيها، حاول أكثرُ من مئة ألف أيزيدي الاستمرارَ في العيش وهم يختبأون من ملاحقة داعش لهم. أكلوا من أوراقِ الشجر إن وجد، وثمارٍ قليلة، لكن حوالى ألفاً من الأطفال والنساء وكبار السن أنهكهم الجوعُ والحرارةُ والجفاف فأسلموا أرواحهم.
في هذا الوادي يمتد مخيم سرديشتي. لم يكن هنا شيءٌ يذكر قبل هجوم داعش على سنجار. أما الآن، فأكثرُ من اثني عشر ألفا من الأيزيديين فضلوا الخيم ببردِها وحرّها على العودة لبلداتهم وقراهم في سفوح سنجار. السنجاري جندي قرر البقاءَ هنا مع عائلته في حضن جبل سنجار لما تبقى من حياته. فهو لم يعد يثقُ إلا بهذا الجبل الذي لم يستطع أيا من الغزاة الوصولَ إليه يوما، حتى داعش. نزح جندي وعائلتُه من قرية قنديل حالما هاجم داعش سنجار. حمل السلاحَ مراراً ليعود مع رجالٍ آخرين للمساهمة في ضمان وصول عائلاتٍ أخرى من الأيزيديين إلى قمة الجبل قبل أن يلحق بها مسلحو داعش. وقدر له أن يكون من أوائل الواصلين إلى هذا المكان.
غير بعيد عن خيمة جندي، يجلس العجوز مجو ورفيقُه سيدو تحت شمس شتاء تشرين الثاني/ نوفمبر. قريبا سيصل البردُ والثلج إلى هنا، ولن يكون الجلوسُ في العراء متاحا لهما حتى الربيعَ المقبل.
تكسرت أظافرُ مجو حين كان يسير حافيا عشراتِ الكليو مترات أيام هروبه مع عائلته إلى الجبل. قصته التي لم ينسَ منها لحظةً واحدة ً تلخص قصةَ الأيزيديين الذين هربوا من قراهم وبلداتِهم جنوب جبل سنجار. باقون هنا. لن نجازفَ بالتعرض لإبادةٍ جديدة على يد أي تنظيمٍ متطرف قد يعود يوما. هذا تقريبا لسانُ حال كل من التقتهم قناةُ الآن في الجزء الغربي من مخيم سردشتي.
خلال هجومِه على جبل سنجار، تعمد داعش محاصرةَ النازحين إلى قمة الجبل وحرمانِهم من مصادر المياه، فلا يعودُ أمامَهم سوى خيارين لا ثالث لهما. النزولُ من الجبل وتسليمُ أنفسِهم ومواجهةُ القتل أو السبي أو التجنيدِ القسري، أو الموتُ من العطش. تقدر التقاريرُ والإحصاءاتُ أن عدد من ماتوا عطشاً فوق جبل سنجار، تجاوز ألفا من النازحين. فالرحلةُ التي خاضها مئةُ ألف أيزيدي عبر سفوحٍ وعرةٍ وقاحلة للوصول الى نبع بيرا خايي، استغرقت نحو سبعةِ أيام، بدون مياهٍ ولا طعام. وقياسا الى حرارة الشمس التي تتجاوز الـ50 درجةً مئوية في أغسطس، والجفافِ الذي كان يغطي جبلَ سنجار، فإن نبع بيرة خايي كان أملا جديدا للنجاة من الموت عطشا. حين جاءت المروحياتُ العراقية والدوليةُ لإلقاء المعوناتِ الغذائية والمؤنِ للمحاصرين فوق جبل سنجار، كان الأيزيديون يستقتلون للحصول على المياه، ويدفعون بأطفالهِم ونسائِهم في جوف الطائرات أملاً بنجاتهم. في كل مرة عادت فيها المروحياتُ لرمي المعونات، كانت تحمل ما استطاعت من النازحين الأيزيديين وتطلقُ زخاتٍ من الرصاص على مسلحي داعش. ربما أشاع ذلك بعضا من الطمأنينة بين اللاجئين إلى جبل سنجار، لكن عشراتِ الآلاف واصلوا رحلة الهروبِ من داعش مشيا على الأقدام بدون ماء، عزّلاً لا شيءَ يحميهم إذا ما وصل إليهم مسلحو داعش.
المزيد:
الطريق إلى الموصل .. نار الفتنة