وثائقيات الآن 17-1-2018
من تحت هذه الأنقاض، يحاول هذا العراقي الموصلي عبثاً إنقاذ بعضٍ من ذكريات عائلته. ليس هناك سوى ذكرياتٍ مبعثرة، وفرحٍ محترق (صورة الدبدوب) وأشلاءِ صور وشرائطَ فيديو متلفةٍ كانت توثق أياما سعيدة عاشوها/ قبل أن يسلبهم تنظيم داعش مدينتهم ويدفن ذكرياتهم، حرقاً أو تدميرا، محاولا القضاء على الحياة.
قضاء الحمدانية، أحد أقضية محافظة نينوى، شمال العراق، يقع جنوب شرقي مدينة الموصل، وتسكنه غالبية سريانية. تعمد داعش تدمير البنى التحتية فيه وحرق الدور السكنية وتدميرَها قبل الانسحاب منه. رافقت كاميرا قناة الآن رجال الأمن وهم يساعدون السكان على الدخول إلى المناطق المحررة للاطمئنان على منازلهم. الذهول كان يسيطر على أصحاب المنازل وهم يرون الدمار الذي لحق بها. يحاول رجل الأمن هنا فتح غرفة مقفلة في منزل هذا الرجل الذي كان يأمل أن يجد محتوياتها وقد سلمت من الحرق والتدمير، فتبعث في نفسه الرغبة بالتمسك بالعيش من جديد في حيه. لكن سواد الجدران احاط به، كما أحاطت به بقايا الأسلحة والذخيرة التي استخدمها الداعشيون الذي احتلوا المنزل.
منذ الساعات الأولى لاحتلال تنظيم داعش لمدينة الموصل عاصمة محافظة نينوى في العاشر من حزيران/ يونيو عام ألفين وأربعة عشر، تعرضت المدينة المطلة على نهر دجلة لعمليات تدمير واسعة في أعقاب فرار قوات الجيش والشرطة إثر هجوم شنه داعش قادما من مدينة دير الزور السورية المجاورة، وسيطر خلاله على كامل محافظة نينوى. أطلق داعش حينها على المعارك التي خاضها في هجومه هذا اسم غزوة أسد الله البيلاوي، وسمى المحافظة ولاية نينوى.
يشطر نهر الخوصر ساحل الموصل الأيسر إلى نصفين، تربطهما ستة جسور صغيرة، قصفتها الطائرات العراقية لعرقلة وصول الإمدادات لداعش خلال عمليات تحرير الساحل الأيسر للمدينة. وتتكون المدينة بجانبيها من مئة وثمانية وستين حيا، منها أربعة وسبعون حيا في الساحل الأيسر، وأربعة وتسعون في الساحل الأيمن. كما تضم خمسة نواحي هي بعشيقة والشورى وحمام العليل والقيارة والمحلبية. وتعد الموصل ثاني أكبر المدن العراقية من حيث السكان بعد بغداد، إذ يبلغ تعداد سكانها مليوني نسمة.
هذه المشاهد سجلت أواخر ديسمبر 2016، في الساحل الأيسر من الموصل إثر تحريرمعظم الأحياء بعد عامين ونصف من احتلال داعش، فيما بقيت بضعة أحياء تشهد معارك متفرقة قبل انتقال القتال الى الساحل الايمن من المدينة حيث تتحصن معظم فصائل داعش الضاربة، استعدادا للمعركة الفاصلة.
الخراب مر من هنا.. كل حي وكل شارع في الساحل الأيسر من الموصل يشهد بذلك. ولو كان للحجارة المتناثرة صوت، لحكت كيف دكتها المعارك المتبادلة خلال عمليات التحرير. ولو كان للميادين صوت، لروت أهوال الذبح التي نفذها مسلحو داعش. هذه الأهوال ستبقى أمدا طويلا في ذاكرة الأهالي الذين شهدوها.
كاميرا قناة الان تنقلت في المناطق المحررة من الموصل، خلال ساعات الهدوء الحذر الذي تكسره نيران القتال على ضفة النهر بين وقت وآخر. بضعة موصليين يخرجون للتبضع والتزود بالغذاء والمياه والاحتياجات الضرورية قبيل العودة على عجل الى منازلهم, خشية من تجدد القتال. طوال شهري، أكتوبر ونوفمبر من عام ألفين وستة عشر، لم يتوقف داعش عن استهداف الأحياء المحررة في الساحل الأيسر، بالصواريخ والهاونات والطائرات المسيرة التي استخدمها لإلقاء القنابل من الجو على الأهالي، بحجة أنهم مرتدون يستحقون الموت لعدم محاربتهم إلى جانب داعش. بالقرب من تل التوبة التاريخي، يتحسر الموصليون على روح المدينة التي كانت تنبض في هذا المكان، تماما حيث كان مرقد النبي يونس الذي فجره داعش صيف ألفين وأربعة عشر.
في الرابع عشر من تموز/ يوليو ألفين وأربعة عشر، فجر داعش جامع النبي يونس الذي كان رمزا إسلاميا وموصليا بارزا منذ العصر العباسي. فقد شُيّد الجامع على طبقات معمارية يعود بعضها إلى العهد الآشوري، في عهد الخليفة العباسي المعتضد بالله في القرن الثالث الهجري، ثم جدده جلال الدين الختني في القرن الثامن الهجري، وأمر بإقامة قبة فوق قبر النبي يونس. وكان الزهاد والنساك يأوون اليه حتى عرف بمسجد التوبة. وقد كسيت جدرانه الخارجية بأحجار الحلان البيضاء المصفرة. وكان يوجد في جدران الحضرة من الداخل محراب من المرمر، وقطع خزفية مزججة، لازوردية اللون، ومربعة الشكل، تتخللها قطع صغيرة من الآجر الاصفر المزجج. كل هذا التاريخ مسحته داعش بتفجير. مشاهد الدمار والموت لحقت الموصليين بعد التحرير، فقد كانوا مجبرين على رؤية جثث الدواعش ملقاة في كل مكان.
خلال فترة احتلاله لمدينة الموصل، فرض داعش على السكان سلوكيات وفق مفاهيمه المتطرفة مغيراً الحياة المدنية الوسطية لسكان المدينة. لاحق مسلحو داعش الرجال والنساء على السواء، فالخروج الى السوق برفقة الزوج للتبضع، يمكن أن يتحول الى تهمة يجلد بسببها الزوج، وتعنف المرأة علنا، إن ارتأى داعشي أنهما خالفا قواعد السلوك المفروض على أهل المدنية. هزم داعش ودحرت فلوله من الساحل الأيسر من مدينة الموصل. عمليات التحرير الشاملة حين تسجيل هذه الحلقة كانت توشك أن تبدأ في الساحل الأيمن حيث بقي ألاف المقاتلين من داعش متحصنين ومعهم آلاف آخرون من الفصائل الخاصة والانتحاريين. في الحلقة المقبلة، نتابع الجزء الثاني من الطريق إلى الموصل، حيث رافقت كاميرا تلفزيون الآن القوات العراقية إلى عمق الساحل الأيمن للمدينة، لتوثق أولا بأول تقدم القوات المحرِرة، وتسجل شهادات الأهالي ممن عانوا الأمرين تحت سطوة داعش.