تضاعف الحرارة في الحوض المتوسط
أصبحت قلة الأمطار في منطقة حوض البحر المتوسط والشرق الأوسط، حيث تميزت بتوافر تقلباتها المرتفعة على مدى القرون الماضية، مع تقلبات واضحة بين فترات الجفاف والرطوبة، محل قلق كبير على مستقبل المنطقة. هناك تأكيدات علمية، في ظل استمرار الاحترار على الايقاع الحالي، على انتقال المنطقة إلى مناخ أكثر جفافاً، سيما في شرق البحر الأبيض المتوسط. هذا ما توصلت اليه دراسة جديدة نشرت في الصيف الماضي بعنوان : تغير المناخ والطقس المتطرف في شرق البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط. وتشير الدراسة الى ان الانبعاثات الحرارية في المنطقة زادت ستة أضعاف خلال العقود الماضية، ما يمكن مقارنته بانبعاثات الاتحاد الأوروبي والهند كل على حدة.
ويشير هذا البحث العلمي الى ان وتيرة الاحترار في المنطقة تتسارع أكثر مما يحدث عالمياً بمرتين، ما يجعلها واحدة من أكبر مصادر الانبعاثات الحرارية على مستوى العالم قريباً، ويعرض مجمل النظم البيئية، الزراعة واقتصاد المجتمعات وأنماط حياتها الى أخطار غير مسبوقة. وتعود أسباب ذلك كما يذهب الباحثون اليه، الى ازدياد كبير في انبعاثات دول المنطقة منذ خمسينات القرن المنصرم، تأتي في مقدمتها كل من إيران، تركيا، المملكة العربية السعودية، مصر والعراق. أما الدول المشمولة في الدراسة فهي: البحرين، قبرص، مصر، اليونان، إيران، العراق، إسرائيل، الأردن، الكويت، لبنان، عمان، فلسطين، قطر، المملكة العربية السعودية، سوريا، تركيا والإمارات العربية المتحدة.
ويتوقع ان تصل درجات الحرارة بحلول نهاية القرن إلى 5 درجات مئوية وأكثر، ويكون أقوى في الصيف، ما تترتب عنه زيادة قوية في شدة موجات الحر وإطالتها. وقد تُحدث هذه النتائج التي تقدمها السيناريوهات المناخية المذكورة في الورقة العلمية التي شاركت في انجازها مؤسسات علمية أوروبية وخليجية عدة، اضطراب اجتماعي كبير، خاصة اذا أخذنا بنظر الاعتبار ارتفاع حرارة الهواء فيما يسمى بـ(الجزر الحرارية الحضرية) أي المدن، جنباً إلى جنب مع النمو السكاني السريع. تزامناً مع ارتفاع الحرارة، من المرجح أن تتناقص الأمطار 20٪ الى 30٪، خاصة في شرق البحر الأبيض المتوسط، ناهيك بتضائل سقوط الثلوج في المناطق المناخية الجبلية، ما يساهم في حدوث حالات جفاف شديدة. وستكون المنطقة معرضة لمخاطر ارتفاع مستوى سطح البحر بوتيرة مماثلة، وستترتب عنه أضرار في البنى التحتية الساحلية والزراعة، إضافة إلى تملح طبقات المياه الجوفية الساحلية، بما في ذلك دلتا النيل المكتظة بالسكان والمزروعات.
دوران الهواء مثل عقارب الساعة
ستؤثر المتغيرات المتوقعة وبشكل حاسم على كافة القطاعات الاجتماعية والاقتصادية تقريباً، سيما في ظل السيناريوهات القوية. وستكون الآثار قوية على الصحة العامة وسبل العيش ورفاه الإنسان، خاصة بين السكان المحليين المهمشين وكبار السن والأطفال والحوامل. بناءً على توقعات حجم تغير المناخ وآثاره خلال النصف الثاني من القرن الحالي والقادم، يمكن القول بأن المنطقة تجدها نفسها أمام تحديات مستقبلية خطيرة وهناك حاجة ملحة إلى بذل جهود كبيرة لتخفيف الانبعاثات عبر اتخاذ تدابير فورية وفعالة ومستدامة، فيما تحتاج المجتمعات المحلية في المناطق الحضرية والريفية والساحلية إلى التكيف مع الظروف البيئية الصعبة المتصاعدة، خاصة في ظل حالات الحرارة الشديدة، والجفاف لفترات طويلة، وارتفاع مستوى سطح البحر.
سألت في وقت سابق من هذا العام البروفيسور (الفاتح الطاهر) في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهو عالِم المناخ غير المشارك في الدراسة المذكورة، عن أسباب التغيرات المناخية الشاذة في المنطقة، فأشار إلى ان ما يحدث هو تغيير في دوران الرياح التي تعود الى النقطة التي بدأت منها، أي انها تشبه عقارب الساعة في ظل وجود منطقة ضغط هواء عال. ويساهم عاملان أساسيان في حصول هذا التغير وهما: حصول تغيرات في منطقة في الغلاف الجوي على بعد 10 كيلومترات من الأرض تسمى بــ ـTropopause، وهي المنطقة التي تحصل فيها التغيرات المناخية والطقسية وكذلك التغيرات في دوران الهواء. وتفرض طبيعة التغير ضغط هوائي عالي في إقليم البحر الأبيض المتوسط. أما العامل الثاني فهو ارتفاع حرارة الأراضي أكثر من مياه البحر المتوسط، بينما تكون المياه أدفأ من الأراضي في الظروف المناخية الطبيعية شتاءً. وبالتالي سيكون البحر أبرد مما حوله نسبياً، ما يشكل منطقة ضغط هوائي عال في البحر أيضاً.
ولكن ما هي الأسباب تقف وراء ذلك؟
توضح الدراسة أن انبعاثات غاز الميثان وأكسيد النيتروجين سيطرت تاريخياً على إجمالي انبعاثات غازات الدفيئة في منطقة شرق الحوض المتوسط والشرق الأوسط، فضلاً عن مساهمات القطاع الزراعي بشكل كبير، بما فيه صناعة اللحوم حتى أواخر عام 1910 وأوائل عشرينات القرن 20. علاوة على ذلك أدى النمو الاجتماعي والاقتصادي وزيادة الطلب العالمي على الطاقة، سيما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى تعزيز استغلال الوقود الأحفوري واستخدامه في العديد من بلدان المنطقة، حيث أصبح إنتاج الطاقة تدريجياً القطاع الأكثر توليداً للانبعاثات.
استنادًا إلى التسلسل الزمني للانبعاثات الوطنية التاريخية، يمثل ثاني أكسيد الكربون والميثان معاً 91٪ الى 96٪ من إجمالي الانبعاثات الناتجة عن النشاط البشري خلال 50 السنة الماضية. ويولّد قطاع الطاقة (النفط والغاز) الغالبية العظمى من هذه الانبعاثات، أي 82٪ الى 88٪. وقد ساهم الغازان المذكوران بنسبة 96٪ في زيادة الانبعاثات بين 1960-1990. واعتباراً من 1980 أصبح ثاني أكسيد الكربون المساهم الأكبر في الانبعاثات. ويعد الارتفاع التاريخي في الانبعاثات أثناء حرب الخليج (1991) كبير جداً وغير معتاد فيما خص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
تعد كل من إيران، المملكة العربية السعودية، تركيا، مصر والعراق من الدول الرئيسية المولدة للانبعاثات الحرارية في المنطقة، 73وبلغت مساهمتها 73٪ من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون خلال 2010، وازدادت هذه المساهمة بحسب الدراسة المذكورة 74٪ على مدى العقود الخمسة الماضية. وساهمت دولة الكويت، ثامن أكبر دولة من ناحية توليد ثاني أكسيد الكربون في الشرق الأوسط، في ارتفاع الانبعاثات الشاذة في عام 1991 وذلك جراء إشعال آبارها النفطية من قبل نظام صدام حسين، حيث كان من الصعب إخمادها. وبلغت مساهمة إيران والعراق والمملكة العربية السعودية من إجمالي الانبعاثات الإقليمية لغاز الميثان 53٪ خلال العقد الأول من قرننا الحالي، ناهيك بمسؤوليتها أيضاً عن انبعاثات الميثان المرتفعة بشكل استثنائي في سبعينات القرن المنصرم.
إضافة الى كل ذلك، تعد مساهمة منطقة الشرق الأوسط رئيسية في انبعاثات الغبار بنسبة 15٪ – 20٪ من اجمالي الانبعاثات العالمية، مما يؤثر على المناخ الإقليمي وصحة الإنسان والنظم البيئية الأرضية والبحرية. وتتنوع مصادر هذا الانبعاث بين مثل الصحاري المصرية والنوبة في شمال شرق الصحراء الكبرى، صحراء الربع الخالي والنفود والدهناء في شبه الجزيرة العربية، صحراء النقب في إسرائيل، البادية السورية العراقية، السهول الفيضية الغرينية في بلاد ما بين النهرين، وكذلك صحاري دَشتي كافير ودشت لوت في إيران بالإضافة إلى البحيرات الجافة أو سريعة الزوال أو الجافة مثل بحيرة أورميه وهامون جازموريان في إيران.
ان العواصف الترابية الناشئة في الشرق الأوسط، شديدة الحساسية من ناحية ظروف الطقس والاضطرابات المناخية، وتؤثر بشكل قوي على إشعاع الغلاف الجوي الإقليمي، المنخفضات، دوران الرياح الموسمية وجودة الهواء. وتشكل مع أنواع الهباء الجوي الأخرى مثل ملح البحر، والكربون الأسود الناتج هن حرق الوقود الأحفوري وحرق الكتلة الحيوية، والجسيمات المختلطة، خطراً كبيراً على الصحة والنظم البيئية والبحرية.
مبادرات اقليمية
قصارى القول، ان منطقة شرق الحوض المتوسط والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا ضمناً، تشهد صراعات إقليمية وداخلية جراء ندرة المياه والموارد الطبيعية الأخرى حتى من دون حصول تغير المناخ، وقد تؤدي إلى آثار خطيرة على المجتمعات وسبل استقرارها في غياب سياسات بيئية مستدامة، لذلك من المهم وضع تنبؤات دقيقة عما يحصل في المستقبل. يمكن القول بأن الأزمات الناتجة عن تغير المناخ والتدهور البيئي تشبه الى حد ما الناس الذي تأثروا بوباء كورونا أكثر من غيرهم، لأنهم يعانون أصلاً من أمراض مزمنة. وبما ان مجتمعات هذه المنطقة تعاني أساساً من مشكلات مائية وبيئية موجودة، ستكون أكثر عرضة لحدة التغيرات المناخية.
وبما أن العديد من النتائج الإقليمية لتغير المناخ عابرة للحدود، فلا غنى تالياً عن التعاون الاقليمي بين البلدان للتعامل مع الآثار السلبية المتوقعة. وسيكون مثل هذا التعاون أمراً حيوياً لتحقيق أهداف التخفيف في الوقت المناسب وضمان أمن الطاقة بشكل متزامن. وبغض النظر عن الاختلافات السياسية والثقافية والدينية يجب أن تلعب المؤسسات التعليمية والبحثية في المنطقة دوراً رائداً بغية تعزيز التعاون في هذا المجال مثل أنشطة بحثية مشتركة، شراكات أقوى بين المؤسسات الأكاديمية، إنشاء أدوات تمويل البحث والابتكار، تبادل البيانات والخبرة والموارد، وتوصي الدراسة بتعزيز التثقيف المناخي لتعزيز القدرة على التكيف والمقاومة المناخية في جميع أنحاء المنطقة.