الراب على خطى المهرجانات
تسللت المهرجانات عبر تصدعات وشقوق في تكوين المجتمع عقب 2011، ولم يلتفت إليها أحد بالشكل الكافي إلا بعد مرور أربع أو خمس سنوات من الانتشار، وقتها تذكر الناس المهرجانات وتفاجأوا بحجم وطريقة انتشارها، بكلماتها وأفكارها، تزامنًا مع صعود نجم “حمو بيكا” ملك العبثية ورفاقه، وصعود هاني شاكر إلى الكرسي نقيبًا للموسيقيين، والبقية تأتي، والبقية نعرفها جميعًا، أصبح لدينا شعبة مهرجانات وشعبة راب، ونقيب مستقيل!
لم تكن تلك النهاية بل بداية القصة، فنحن دائمًا نتفاجأ بعد مرور الوقت، والآن نعيد الكَرّةَ، ففي نهاية صراع العروش المحتدم حول المهرجانات والنقابة، والمهرجانات والمجتمع ما بين مؤيد ومعارض يصعد نجم الراب ويرتفع، يقتحم إعلانات التلفزيون والدراما والسينما والحفلات في مصر والخليج، وسنلتفت إليه بالحديث والنقد والبحث بعد ظهور موجة أخرى جديدة بعد خمس سنوات … تلك هي المعضلة.
عشر سنوات غزت المهرجانات كل المجالات، ليس فقط من ناحية الغناء ولكن نستطيع أن نقول كحقبة، كسلوك وطريقة تعبير وأفكار، استفاد منها المعلنون والمنتجون للوصول للمشاهد والمستهلك وتغير شكلها وتطورت أفكارها وموضوعاتها سلبًا وإيجابًا ونحن نشاهد مكتوفي الأيدي إما ازدراءًا واحتقارًا أو إعجابًا وتصفيقًا ولكنه في كل الأحوال يكون عن بُعد، وهو ما يتكرر الآن بالنسبة للراب الذي تسلل بهدوء وبعيدًا عن ثنائية “النقابة/المهرجانات”
الآن الراب يفعل نفس الأمر، يغزو الإعلانات وتترات المسلسلات وأغاني الأفلام، ويتقدم أكثر لأنه “شيك” الأخ الشقيق للمهرجانات القادم من الخارج، الأكثر تماشيًا مع الموضة والزمن والتطور، ولازلنا نقوم جميعًا بنفس الدور، دور المتفرج، وهنا أحاول الاقتراب من قليلًا بعيد عن القبول والرفض، اقترب بصحبة “مولوتوف” أحد أشهر موزعي الراب والمهرجانات في مصر منذ صعود الراب في موجة 2018 التي عبرت بالراب وتوزيعاته الجديدة “التِراب” “والتِراب شعبي”.
حيث قام بالتوزيع لمشاهير الراب والمهرجانات، ففي الراب قام بتوزيع “الجميزة” لمروان بابلو والتي شهدت وصول الراب إلى ملايين المشاهدات ولأول مرة تزامنًا مع توزيعات تقترب جدًا من توزيع المهرجانات، ووصوله إلى قاعدة جماهيرية لم يعرفها الراب منذ وصوله لمصر في التسعينات، ثم التعاون مع ويجز في “دورك جاي” والتي كانت نقلة نوعية جديدة نحو إزالة ما تبقى من حدود بين توزيعات موسيقى الراب والمهرجانات ووصلت حتى الآن إلى 94 مليون مشاهدة على اليوتيوب، وساهمت في المزيد من الانتشار للراب ووصوله إلى جماهيرية أكبر.
بسؤاله مبدئيًا عن السر في حالة الانتشار التي حدثت في السنوات الأخيرة فجأة رغم أن الراب موجود في مصر وله مشجعون من سنوات طويلة قال:
“الراب منتشر من فترة طويلة، لكن لم تكن مواقع التواصل ظهرت وقتها، وتجربة نجوم التمثيل في غناء الراب مؤخرًا ساهمت في انتشاره أكثر بين الشباب والأعمار المختلفة، لأن البعض يتوهم أن الراب فنٌ سهلٌ لا يحتاج لإمكانيات عالية فى الصوت والمزيكا وهذا غير حقيقي بالمناسبة.
تجربة نجوم التمثيل في غناء الراب مؤخرًا ساهمت في انتشاره أكثر بين الشباب والأعمار المختلفة
مولوتوف- موزع راب
الراب فن له مجاله وقوانينه الخاصة، وفيما يخص الإعلانات، دائمًا يبحث المنتج في مجال الدعاية والإعلان عن الشىء الأكثر رواجا بين الناس..من الوارد أن يظهر غدًا لونٌ جديدٌ وقتها سيتجه إليه المنتجون في الحال.
المهرجانات للأفراح والراب للوحدة والاكتئاب
أعتقد أن المهرجانات رغم انتشارها الجارف لم تعبر عن هوية الشباب بشكل حقيقي ودقيق، وطبقًا لتعبير “مولوتوف” فإن المهرجانات تشبه موسيقى “الزار” في الماضي، وهذا صحيح ولذلك هي معبرة عن حالة مزاجية متطرفة أحيانًا وخاطفة، سواء في الأفراح والاحتفالات أو الاستماع والرقص عليها للخروج من حالة نفسية معينة ولتفريغ شحنات سلبية، ربما يسمعها البعض بشكل مستمر ولساعات طويلة لكنها ليست ملائمة لقطاعات كبيرة من ناحية أنها موسيقي قريبة تعبر عنهم بشكل حميم، فهي ليست تلك الموسيقى الصديقة الممتدة بعلاقة خاصة ومستمرة مع أصحابها، بل تعتبر معرفة قائمة على النفعية، على رغبة سريعًا ما تزول، خاصة مع حالة شبه الغياب للأغنية الشعبية التي كادت تختفي بعد أن شهدت أوج حالات انتشارها في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي على يد عدوية وعبد الباسط حمودة وحسن الأسمر وكتكوت الأمير وغيرهم، وهو ما ساهم أيضًا في انتشار الراب بشكل أكبر الآن واحتلاله مساحة أوسع؛ لأنه قفز هو الآخر واقترب بعض نجومه من الأغنية الشعبية والموال بتوزيعات مزجت بين الشرقي والغربي، ولأن الراب بطبيعة الحال منذ نشأته هو مهتم بالقصة، يحكي عن حياة المغني وما يمر به من تجارب، وهو ما يجعله أقرب الأشكال الموسيقية والغنائية للكثير من الشباب.
المهرجانات رغم انتشارها الجارف لم تعبر عن هوية الشباب بشكل حقيقي ودقيق
مولوتوف- موزع راب
وهناك أيضًا طبيعة الزمن المنفتح، فضغطة الزر الآن تضع أمامك المنصات والأفلام والموسيقى من أي مكان في لحظة، وإتقان الأجيال الجديدة للغات أصبح أكثر، وهو ما قرّب المسافات ولم يعد الراب مقتصرًا على فئة الشاب الدارسين بالجامعة الأمريكية “الروش” كحال التسعينات، فاتسعت القاعدة، وأصبحت اللغة مطلبًا أهم لمجالات أكثر مما ساعد بمرور الوقت على انتشار الراب باعتباره فنا مستوردا بطبيعة الحال “يجري الآن إضفاء اللمسة المصرية عليه من خلال المقسوم والبياتي والإيقاعات المصرية..”، بل إن البعض من نجوم الراب الشباب يتعمد إقحام كلمات بالإنجليزي داخل الأغنية لينال رضا المستمع في هذه الأيام
الراب مظلوم بالفلوس والمخدرات!
وبالحديث عن الكلمات سألت مولوتوف عن الراب الذي يتحدى السائد والروتين ويتمرد على الوضع القائم دائمًا ومع ذلك تنحصر كلماته وموضوعاته مؤخرًا حول الفلوس والمخدرات وتوصيف المرأة بأوصاف فجة قال:
الراب مجاله أهم من المساحة الموجود فيها حاليا..ظلمه الشباب بنوعية الكلمات التي كتبوها، لكنه مجال أوسع بكثير وسيأتي الوقت ليثبت نفسه أكثر فى مصر لأنه أخذ ما يستحق فى جميع أنحاء العالم.
الراب يسبب الاكتئاب!
المسألة تشبه تفكيك لعبة والاستمتاع بهذا التفكيك دون الرغبة لإعادة تجميعها مرة أخرى والاستسلام لهذا المنظر، أغاني الراب أغاني نفسيّة بامتياز على العكس من المهرجانات، الراب لعبة العبث بالجراح واستحضار الذكريات، تساعد على التركيز على الماضي، تشبه عدسة مقعرة، نوع من التآلف والتعايش السلمي أو السلبي مع الهزائم، أو بمعنى أصح نوع من التلذذ بتعذيب النفس، ففي الوقت الذي سألت فيه مولوتوف بشكل مباشر هل الراب وموسيقاه يسببان الاكتئاب أجاب:
يظن بعض الأشخاص أن الموسيقى الصاخبة تدعو أو تحفز على العنف وهذا غير صحيح بالمرة، الموسيقى بريئة من هذا.. العكس هو الصحيح، المستمع للموسيقى بطاقتها العالية يتخلص من الطاقة السلبية التي لو لم تخرج بهذا الطريق، فمن الوارد أن تخرج في العنف والمخدرات، لكنها في الموسيقى تكون عن طريق الرقص والحركة، فيما يشبه موسيقى الزار في الماضي، أنا أعتبر الرقص على هذه الأنواع من الموسيقى يشبه اليوجا التي تصفي النفس.
لكن دراسة في جامعة نيويورك تبحر في الاتجاه المعاكس لهذا الرأي وترد على رأي مولوتوف.. حيث تقول: إن الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية يفضلون الاستماع إلى موسيقى الراب، بل إن هذه الأغاني يمكن استخدامها للمساعدة في التنبؤ بالاضطراب في المستقبل!
الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية يفضلون الاستماع إلى موسيقى الراب
دراسة أمريكية
وهو ما يعطي مؤشرا عن أحوال الشباب مؤخرًا وما يعانيه على المستوى النفسي والذهني في الواقع وتعلقهم بفنون تعكس اتجاهات غير مبشرة أو وردية!
الفنان صنعة البيئة
لذلك لا يمكن بحال من الأحوال تحليل ظاهرة صعود المهرجانات ومن بعدها الراب بمنأى عن الزمان والمكان، والظرف الاجتماعي، وعن البيئة المحيطة بالشباب المنتجين لهذه الموسيقى ومن يستمعون إليهم.
فيقول “مولوتوف”:” تمامًا مثل البحر والمناظر الطبيعية الخلابة حين تكون حافزًا للفنان، تكون الأماكن الجبلية والصحراوية لديها تأثير واضح عليه.
كل بيئة تفرز الفن الخاص بها..ووجودى وسط جبل المقطم ومصانع حلوان جعل الموسيقى الخاصة لدي فيها حركة وأصوات تشبه أصوات الآلات التي تعمل فى المصانع، تشبه حركة العمال الشقيانين الكادحين، لو سمع عامل فى مصنع مزيكا هادئة ربما نام أو تكاسل عن العمل..والعكس صحيح
وحين تتخيل الموسيقى الإلكترونية ستكتشف أنها جزء من العمل والآلات في المصانع….فأنا أذهب لأُحضر المزيكا الخاصة بي من وسط الناس، ذهبت لأماكن لم أكن أتخيّل الذهاب إليها..مدينة السلام وإمبابة والكيت كات، ذهبت للأماكن التي كتب عنها “جدي”خيرى شلبى” فى وسط البلد، بحثت عن بطن البقرة ومنشية ناصر وعم أحمد السماك، كل هذا جزء من تكوينى وتأثرت به.
لذلك فالراب ليس بتلك الصورة البسيطة أو المبتورة عن شباب يرقص ويتمايل مع الإيقاعات أو يرطن بكلمات غريبة…، بل هو عالم واسع، له قوانينه وتأثيره على فئات واسعة من الشباب يعتبر الراب هو صوتهم الوحيد، الذي نحتاج لسماعه وفهمه واستيعابه لا مجرد قبوله أو رفضه، لكي نفهم الاتجاه إلى أين.