ما هو سبب عدم مغادرة شركة توتال إينيرجيز روسيا حتى الآن؟
على إثر الغزو الروسي الشرس لأوكرانيا الذي ابتدأ في 24 فبراير / شباط، فرض الغرب بسرعة سلسلة عقوبات جزائية على نظام فلاديمر بوتين. لا يتمثل الحدث الإستثنائي حقاً في قيام الحكومات الغربية باتخاذ هذه الإجراءات لمعاقبة روسيا بل في قيام عدد لا يستهان به من الشركات المتعددة الجنسيات باتخاذ قرار من تلقاء نفسها بإقفال منشآتها في روسيا ومغادرة البلاد. من بين هذه الشركات، منيت شركات نفطية عملاقة على غرار بريتيش بتروليوم وشيل وإكسون بخسائر كبيرة إلا أن شركة عملاقة واحدة بقيت بكل ثبات في روسيا وهي شركة توال إينيرجيز. فما هو السبب في ذلك؟
هذه الشركة تتواجد على الأراضي الروسية منذ تفكك الإتحاد السوفياتي في العام 1991 وكانت حينها تعرف باسم توتال. ومنذ ذلك الحين، نمت الشركة على نحو صاروخي هناك جاعلةً من روسيا أهم سوق نفطي لها بفضل توليدها إيرادات نقدية بقيمة 1،5 مليار دولار سنوياً. كما أن الإحتياط الروسي يشكل 24 بالمئة من إحتياطات الشركة وقد أنتجت الحقول النفطية الروسية 17 بالمئة من إنتاج الشركة في العام 2020 بما في ذلك نسبة 29 بالمئة من إنتاج الغاز وحده. كما أن إستراتيجية التنويع الجديدة التي تنتهجها توتال إينيرجيز بالإستثمار في الطاقات الخضراء الأكثر احتراماً للبيئة تعتمد كثيراً على الغاز الطبيعي المسال Liquified Natural Gaz الذي تعتبر روسيا حجر الزاوية فيه.
في الحقيقة، يملك العملاق الفرنسي 19،4 بالمئة من الحصص في شركة نوفاتيك، وهي أكبر منتج للغاز الطبيعي المسال في روسيا. كذلك، تعدّ توتال إينيرجيز ثاني أكبر منتج خاص للغاز الطبيعي المسال في العالم وصاحبة دور مهم في مشروع Arctic LNG 2 الواعد جداً والذي تبلغ قيمته 21 مليار دولار وكذلك في مشروع يامال لإنتاج الغاز المسال Yamal LNG الواقع على شبه جزيرة يامال في سيبيريا والذي يذهب إنتاجه إلى آسيا. وبالتالي يُتوقع أن يشكل امتلاك توتال إينيرجيز حصة 30 بالمئة من مشاريع إنتاج الغاز الطبيعي المسال في روسيا محركاً مهماً للنمو في مستقبل الشركة ويُمكن أن يرفع حصتها الحالية في روسيا من 17 بالمئة في الوقت الراهن إلى 25 بالمئة في المستقبل.
أما شركة نوفاتيك وهي شركة كبيرة متخصصة بانتاج الغاز الطبيعي المسال فيرأسها ليونيد ميخيلسون الذي قدّرت ثروته بـ 20 مليار دولار قبل بدء الغزو الروسي لأوكرانيا. ولكن الأهم هو أنه من بين مدراء الشركة الرئيسيين يبرز إسم جينادي تيمشينكو الوارد إسمه على لائحة عقوبات الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.
يصف الإتحاد الأوروبي هذا الرجل بأنه “على معرفة شخصية قديمة” بالرئيس فلاديمير بوتين و”أحد الرجال المقرّبين منه”. وبالرغم من هذا التوصيف، لا يزال تيمشنكو يحتل مركز الرئيس الثاني لغرفة التجارة الروسية الفرنسية إلى جانب باتريك بويانيه الذي يشغل منصب المدير التنفيذي لشركة توتال إينيرجيز لا غيره. وحتى قبل بويانيه، كان الرئيس الثاني لغرفة التجارة الروسية الفرنسية كريستوف دو مارجوري، المدير التنفيذي التاريخي السابق لشركة توتال.
فلماذا تقيم إذن توتال علاقات مع أوليغارك روسي يرد إسمه على لائحة العقوبات ولم تقرر بعد مغادرة روسيا؟
لعب دو مارجوري دور المحرك الحقيقي لتطوير توتال رابطاً شخصياً بروسيا بما في ذلك تطوير علاقة صداقة شخصية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء السابق ديميتري ميدفيديف على حد سواء. لم يُخف دو مارجوري يوماً علاقته القريبة بالرئيس بوتين الذي كان يعقد معه محادثات مطولة في كل لقاء بين الرجلين. وكان يقول “هل يمكن تخيّل روسيا من دون بوتين؟ من دونه ستعم الفوضى العارمة في البلاد”. ولدى وفاة مارجوري، قال بوتين إن روسيا خسرت “صديقاً حقيقياً” مشيداً بتفاني رجل عمل طوال عمره لقيام علاقات روسية فرنسية وطيدة. وفي العام 2017، عندما حضر بوتين شخصياً حفل إطلاق إسم “كريستوف دو مارجوري” على كاسحة جليد عملاقة، أثنى على ميزات صديقه قائلاً “كان صاحب موهبة في رؤيته الإستراتيجية الفريدة ولطالما عمل من دون كلل أو ملل لتوطيد الصداقة والشراكة الوثيقة بين فرنسا وروسيا.”
كدليل على تفاني دو مارجوري لروسيا ولأنشطة توتال هناك على حد سواء، كان من أبرز المعادين الغربيين للعقوبات التي فرضتها الأسرة الدولية على روسيا على إثر قيامها بغزو شبه جزيرة القرم. وقبل موته ببضع ساعات – نتيجة ما اعتُبر حادثاً – عندما اصطدمت طائرته الخاصة بكاسحة ثلوج على مدرج مطار موسكو، أدلى بخطاب حماسي حول العقوبات “غير العادلة” التي فُرضت على روسيا وصرّح بحضور رئيس الوزراء الروسي ديميتري ميدفيديف :
“لا شك في أن العقوبات الحالية تعقّد أنشطة الشركات الأوروبية والأميركية. نحن ضد العقوبات بشكل عام. لقد قلت ذلك مراراً وتكراراً على مسمع الجميع هنا. ولربما تراجعت شعبيتي في بلادي بما أنني أُتهم دوماً بالتسويق لمصلحتنا بشكل أناني. في الحقيقة إن لم أكن أحب العقوبات فالسبب هو أنني أعتبرها غير عادلة وغير منتجة. على العكس، نحن نعتبر أن المشاكل السياسية تستلزم حلولاً سياسية. والوضع الراهن هو نتيجة فشل ديبلوماسي عندما تكون العقوبات الأدوات الوحيدة المتبقية ولأننا نعتقد أن عالم الشركات هو قوة دفع نحو الخير وقناة تفضي إلى الحوار وطريقة لتحسين التفاهم المتبادل. وبالتالي وعلى الأخص في فترات الشدة لا بدّ من حماية عالم الشركات وتشجيعه. أما اليوم فالوضع معاكس: تتخذ السياسة من الشركات رهينة لها.”
هذا الخطاب يفسّر جزئياً سبب تمسّك توتال إينيرجيز بروسيا بالرغم من أنها التزمت بعدم تأمين أرصدة لأي مشاريع جديدة في روسيا
حتى هذه الساعة لم تطلب الحكومة الفرنسية صراحةً من توتال إينيرجيز توضيب معدّاتها ومغادرة روسيا. ولكن يبدو أنه بفعل الضغط المتزايد و من أجل المحافظة على سمعتها الطيبة، ستضطر توتال إينيرجيز إلى أن تقلّص من وجودها في روسيا وربما إلى مغادرىة البلاد في نهاية المطاف. على صعيد آخر، منيت شركة النفط البريطانية بريتيش بتروليوم بخسائر عملاقة من خلال إعلانها عن عزمها بيع حصتها البالغة 20% من إجمالي الحصص في شركة روزنيفت الروسية العملاقة بقيمة 25 مليار دولار ولربما ستُمنى توتال إينيرجيز بخسارة بالحجم نفسه. وهكذا تأتي الحرب الروسية الجديدة هذه لتذكرنا بأن الجيوسياسية تلعب دوراً كبيراً في عالم الشركات بما أن الغزو الروسي لأوكرانيا كلّف الشركات الغربية التي كانت تقيم أنشطة تجارية في روسيا الكثير الكثير.
تنويه: جميع الآراء الواردة في زاوية مقالات الرأي على موقع أخبار الآن تعبر عن رأي أصحابها ولا تعكس بالضرورة موقف موقع أخبار الآن