يصل يوميا الكثير والكثير من الشباب الذين يحملون معهم الأحلام و الآمال إلى الدول الأجنبية و يظنون أن بقية الحياة سوف تكون سهلة، سلسة ودون أي حواجز أو صعوبات.. يغادرون الوطن العربي بـ”الحرقة” و يخططون خلال أياما وسنوات إلى الوصول إلى الأراضي التي يتوقعونها “الأراضي الذهبية أو الأراضي التي تغرس فيها ثمرة و تنمو منها الآلاف في يوم واحد”، تلك هي الفكرة المنتشرة لدى العديد منا، نحن الشباب العربي، و التي كتبت عليها مقالي الأسبوع الماضي.
اليوم سوف أحدثكم عن الجانب الآخر من “الحرقة” الذي لا يراه الكثير منا والذي يتمثل في الأطفال.. جانب نكتشفه بصعوبة ويؤلمنا رؤيته ووصفه عندما نراه.
بصفتي سفيرا للشباب المبدع العربي، أتحدث كثيرا عن الأطفال والشباب خاصة و أنني واحد منهم وحقيقة أفتخر وأعتز بذلك.
عمري الصغير هويتي و تمكنني هويتي من التحدث بلغة الشباب، أجمل و أروع لغة في الدنيا، عندما كان عمري 9 سنوات، اقترحت علي وزارة التعليم الفرنسية أن أزور عددا من المدارس كي ألتقي بالتلاميذ وأحدثهم عن رواياتي وقصصي.. أتذكر أن الوزارة أرسلت مذكرة رسمية إلى جميع المدارس وطلبت منهم في إطار “أسبوع الأدباء و العلماء” أن تختار كل مدرسة ضيفها بين عدد من الأدباء والعلماء المشاهير وأتذكر أن كان بينهم بالأخص”كارول مارتينيز و ايريك أورسينا و كزافي لاوران بيتي.
كان قد سبق وقد نظمت هذا النوع من اللقاءات مع الشباب لكن المفاجأة الكبرى التي أبهرتني و جعلت الدموع تسيل من عيني كانت عندما رن تلفوني وأعلمتني الوزراة أن مدرسة اللاجئين الغير قانونيين في شمال مدينة ستراسبورغ طلبت مقابلتي واختارتني بين جميع الآخرين.
أتذكر جملة خبرتني إياها الوزارة وبقت دوما في ذاكرتي ومن المستحيل أن أنساها “عندما شاهد التلاميذ مقابلاتك، أحسوا بقرابة معك في أفكارك، التي هي أفكار الشباب والطفولة وخبرونا أنك الوحيد الذي تستطيع أن تفهمهم”. لم أكن قد بلغت سن الـ10 سنوات، و لم أكن أعلم كيف أستطيع أن أساعد الأطفال والتلاميذ فكنت أتوقع أنه لا شيء كان بإمكاني لتغيير حياتهم، كنت أخاف أن تزيدنا الزيارة حزنا وألما، وأن لا يكون لها أي تأثير إيجابي.
كانت المدرسة بعيدة عن المدينة، بعيدة جدا، وعندما كانت تقترب منها السيارة كنت تحس أنك تدخل عالما آخر وليس العالم الذي تراه في الأفلام ولا الأوبر ايست سايد و لا فيرساي، كان عالما لا تفهمه إلا عندما تراه بعينيك.. كم من أحلام و آمال كانت قد تجمعت في مكان واحد و لم تتحقق.
عندما وصلنا، و عكس كل التوقعات، خرج التلاميذ جريا نحو السيارة و كانوا يرفعون بين أيديهم أعلام بيضاء كتبتوا عليها كلمة “السلام”، كانوا يرفرفون بها في السماء، فتحوا بوابة السيارة و رحبوا بنا خير ترحيب.
طلبوا مني أن أتتبعهم إلى قسمهم و تحدثنا هناك لمدة ساعات.
كل واحد منهم كان لديه قصة مختلفة، فكان هناك من وصل من ليبيا والآخر من فلسطين أو من أوروبا الشرقية.. لكن النتيجة كانت واحدة، كانوا في نفس المكان وكانت الحياة الصعبة ومُرة، لكن رغم ذلك لا تتخيلون رفاقي، سعادتي و سعادتهم عندما كنا نتحدث عن قصصنا ونتحدث عن التعليم وأحلامنا لأجل التعليم، فلمدة ساعات نسينا ظروف الحياة القاسية وكنا سعداء بتجمعنا.. منذ فترة طويلة لم يتحدث الأطفال إلى شخص آخر خارج خيمهم ومدرستهم فالأغلبية كان يتوقع انهم “أشباح او كائنات فضائية” وتلك اللحظات مكنتنا أن نتعرف على بعضنا البعض و أن يكتشف الأطفال هويتهم الحقيقة وشخصهم خارج بطاقة اللاجئ التي كانت مسندة إليهم، أهداني الأطفال كتاب كان قد ترجم فيه كل واحد منهم مقطع من رواياتي بلغته الأم وكانت بين اللغات هناك العربية والسواهيلي والصربية وغيرهم، احتفظت منذ ذلك اليوم بالكتاب في مكتبتي و تحدثت عنه لكل رئيس دولة التقيت به لأن ذلك الكتاب كان الرمز الأكبر للسلام. بقيت بتواصل مستمر مع الأطفال عبر “سناب شات” و لن أتخلى عن قضيتهم و قضية الأطفال اللاجئين أبدًا..
كل هذا الدمار الذي يعيشونه بسبب الحروب و فقط الحروب..