د. فهد بن سعد الماجد – ساحة الرأي | جريدة الشرق الأوسط
رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني، نزيل دمشق، المولود سنة 661 هـ، والمتوفى سنة 728 هـ، وعاش 67 سنة وأشهراً.
وما أعظم جناية المتطرفين عليه، فهم أبعد ما يكونون عن منهجه، وهو أعلى ما يكون عن تطرفهم الذي نتجت عنه استباحة دماء المسلمين، وتكفير جمهورهم، إضافة إلى التعدي على المسالمين الآمنين، وقد قال ابن تيمية نفسه عن ذلك: «ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المسلمين بالذنوب والخطايا، فإنه أول بدعة ظهرت في الإسلام، فكفّر أهلها المسلمين واستحلوا دماءهم وأموالهم». ونستطيع أن نتبين تمايز ابن تيمية عن المتطرفين في شتى الأنحاء العلمية والعملية.. وفي المنهج والسلوك. ولكننا ولضرورة اختصار المقال نختار سمتين فقط.
فالسمة الأولى: السماحة التي كان عليها ابن تيمية، سواء في نقاشاته العلمية، أو في أخلاقه العملية، بل هو قبل ذلك يؤصّل للسماحة قبل أن يتخذها خلُقا وطبعا، ويبين في ضمن ذلك مدى الحاجة إليها، ليس للمسلمين فيما بينهم وحسب، بل حتى لجميع الناس، وأنهم لا غنى لهم عن السماحة في تعاملاتهم وحياتهم العامة والخاصة، وأنه بغير السماحة لا يمكن أن يستقيم لهم أمر دين ولا أمر دنيا، وهذا يعني أن ابن تيمية يعد السماحة ضرورة لا ينبغي للإنسان أن يفرّط فيها أو يستغني عنها يقول عن ذلك: «ولهذا أمر الله تعالى بتأليف القلوب حتى جعل للمؤلفة قلوبهم نصيبا في الصدقات، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)، وقال تعالى: (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة)، فلا بد أن يصبر وأن يرحم، وهذا هو الشجاعة والكرم، ولهذا يقرن الله تعالى بين الصلاة والزكاة تارة، وهي الإحسان إلى الخلق، وبينها وبين الصبر تارة، ولا بد من الثلاث: الصلاة والزكاة والصبر. لا تقوم مصلحة المؤمنين إلا بذلك في صلاح نفوسهم وإصلاح غيرهم، لا سيما كلما قويت الفتنة والمحنة، فإن الحاجة إلى ذلك تكون أشد، فالحاجة إلى السماحة والصبر عامة لجميع بني آدم، لا تقوم مصلحة دينهم ودنياهم إلا بهما». فهو هنا لا يقرأ السماحة في نطاقها الإسلامي وحسب، وإنما في نطاقها الإنساني باعتبارها داعمة أساس للعلاقات البشرية.
وقد ظهر للسماحة أثر كبير في انتشار الإسلام وذيوعه في الآفاق، لأن هذه السماحة تحاكي الفطرة الإنسانية السوية.
وحقيقة السماحة: التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، والوسطية بهذا المعنى هي منبع الكمالات، وقد قال تعالى في وصف هذه الأمة: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا).
وتنظيرات ابن تيمية عن السماحة ظاهرة في جميع كتبه دون استثناء؛ لأنها نظرية أصيلة في كتاباته، وتكشف عن مرتكز أساس في شخصيته.
أما السمة الثانية فهي: قراءته العميقة للفكر الإنساني، سواء في أدواته أو في مضامينه، وتذرعه إلى ذلك بما لديه من أصالة فكرية وثقافية، بحيث كانت قراءته هذه قراءة ناقدة فاحصة تتبين الاتجاهات والدلالات، وتستنتج الأفكار والأطروحات.
ونتج عن هذه القراءة نتائج – بحق – باهرة، قدمها بأسلوب راقٍ وعالٍ ومسترسل، وينشغل فيها كثيرا ببيان مكامن القوة من مواطن الضعف وينص ويشرح الصحيح من الخطأ.
وتميزت قراءته هذه بأنه في الغالب لم يكن يستهدف مصنفا أو مؤلّفا بالنقد والتقويم، وإنما كان يستهدف نقد فكرة المؤلف بتمامها في كلّ مؤلفاته، بحيث إنه يعطيك تصورا شبه تام عن هذه الشخصية وفكرتها الفلسفية أو العلمية.
ومن عمق قراءة ابن تيمية للفكر الإنساني: أن تكوّن لديه تحليل دقيق لمناهج التفكير، واستنتج المنتج منه وغير المنتج، فهو يقول على سبيل المثال في قراءة شاملة للفكر الإنساني: «وبنو آدم ضلالهم فيما جحدوه ونفوه بغير علم، أكثر من ضلالهم فيما أثبتوه وصدقوا به. قال تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله)، وهذا لأن الغالب على الآدميين صحة الحس والعقل، فإذا أثبتوا شيئا وصدقوا به كان حقا». فلاحظ شمولية القراءة، ورهافة التعليل.
وهو هنا إذ يشير إلى الحس والعقل، فهو ينسجم تماما مع طرحه المبثوث في كتبه، وهو أنه نعى كثيرا على فلاسفة اليونان، خاصة أرسطو، في التنظير البعيد عن التجربة، ونتج عنه أنهم خلطوا كثيرا بين قضايا الأذهان وقضايا الأعيان، وهذا بعينه ما نقده الفلاسفة المحدثون، خاصة الفلاسفة التجريبيين الإنجليز، بدءا من بيكون ولوك، وانتهاء بمل ورسل، على الأقدمين، وتحديدا فلسفة اليونان، وهذا النقد هو السبب الرئيس في النهضة الحضارية الحديثة ذات المنتجات المادية المبتكرة.. يقول بيكون عن ذلك: إن خطأ فلاسفة اليونان الكبير هو أنهم صرفوا وقتا كبيرا في النواحي النظرية والقليل في الملاحظة والبحث العلمي.
لكن الذي ميز ابن تيمية هنا هو أنه يعد التجربة دليلا علميا من ضمن أدلة، وهذه نظرة وسط بين من يلغيها ومن يفردها بالاستدلال. ولا يمكن أن تفهم السمة الأولى التي هي السماحة، أو الثانية وهي عمق القراءة للفكر الإنساني عند ابن تيمية، على تمامه دون أن تعرف أن لابن تيمية ذوقا خاصا في فهم الانطباعات النفسية، والتقلبات المزاجية للنفس الإنسانية ذات النقص والتغير، ويقع له تقريرات وإشارات تستوقفك، وقلّ أن تجدها عند غيره، بحيث إن من يكثر من ممارسة كتب ابن تيمية وينطبع بها يستطيع أن يحلل كثيرا من المواقف ويردها في الغالب إلى أمور نفسية لا قناعات فكرية.
«من رحل إلى الله قربت مسافته، حيث رجع إلى نفسه أدنى رجوع، تعرّف احتياجه إليه في تكوينه وبقائه، وتقلبه في أحواله وأنحائه، ثم استبصر من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس» (درء تعارض العقل والنقل 3/ 133).
* الأمين العام لهيئة كبار العلماء