ساحة الرأي | أخبار الآن ـ (ياسر الأطرش)
ثمة أممٌ تفاخر بتاريخها، وأمم تفرض على الحياة إيقاعها وترسم حاضرها وحاضر ومستقبل غيرها، مستحضرةً لغة القوة ومنطق الأمر الواقع، ويبدو العرب أمة غارقة في التاريخ، حتى وكأنهم يعاودون العيش فيه من خلال استحضاره واستنطاقه وتمثُّله في كل أمورهم، وكلما زاد حاضرهم ضبابية وبؤساً، كلما أوغلوا في الغوص عميقاً، يمارسون الهروب من الخيبات والانكسارات إلى عوالم صلاح الدين وفتوح ما وراء السند والهند، وحكايات بطعم الانتصار يقنعون أنفسهم وأبناءهم بأنهم أهلها، وبأن شمسهم ستعود من جديد لتشرقَ على الغرب!..
ولأنهم لم يقرؤوا في ذلك التاريخ إلا الانتصارات، وأعموا أبصارهم قصداً عن تواريخ حافلة بالهزائم، أفاقوا فجأة على حروب قادمة من التاريخ أيضاً، تحصدهم وتذروا ما تبقى من أضغاث أحلامهم.. هي أيضاً كانت نائمة في ثنايا الكتب والحكايات وزوايا الأنفس المظلمة، إلى أن جاء من استثمرها وأيقظها حتى باتت أكثر حضوراً وقتلاً وفتكاً من كل آلات الحرب والموت..
عندما انطلقت الثورة الشعبية في سوريا، لم يستطع المراقب الداخلي أو الخارجي رؤية أو تلمّس طيفٍ قادم من الماضي، كانت الأكفُّ والحناجر والعقول متراصة متعاقدة على المضي إلى المستقبل، المستقبل الأبهى الذي يليق بكل السوريين بلا تفرقة، كانت ثورة كل المغلوبين والمقهورين والطامحين إلى الانعتاق والانتقال من طور العيش إلى أطوار الحياة، من كل الطوائف والأعراق والمشارب الفكرية… ولما جرب نظام القمع وداعموه كل وسائل الوقيعة والتضليل، وفشلوا في تفتيت الصوت وتفريق ما اجتمع الناس عليه بالحق، لم يجدوا وسيلة أعتى وأجدى من آلة التاريخ لإقحامها في المعركة، فكل ثارات العرب بردت وانطفأت نيرانها، وتصالحت عبس وذبيان، وصارت ناقة البسوس وحروب كليب وجساس سيراً شعبية للتسلي في مساءات رمضان الحميمة، إلا "ثارات الحسين"، ما زادت مع تقادمها إلا توقداً وحشداً وتسعيراً خفياً وظاهراً للأحقاد، استعداداً لحرب سوف تأتي، وها قد وفدت من بوابة الشام، موطن الجريمة والثأر!..
وقد أدرك النظام، ومن أمامه وورائه حليفه الإيراني، أن لا سبيل لشرعنة القتل واستباحة الناس، وتحويل الثورة إلى حرب، إلا تفعيل وتأجيج نار ما زالت تستعر في صدور العامة والجهلاء، وتكفي المؤسستان الدينية والعسكرية للقيام بالدور القذر، مقابل دورٍ إعلامي ينفي ويتهم القتيل!..
وما التسريبات التي بدأ النظام بالترويج لها منذ الأشهر الأولى للثورة، إلا بيان قاطع على نيته بدفع الأمور لتأخذ منحى طائفياً، وهذا ما كان بعد مجازر البيضا والحولة والتريمسة التي أسفرت قصداً عن سكين القتل الطائفي، ما استدعى ردود فعلٍ طبيعية من قبل الفصائل المعارضة، وإن لم يكن على مستوى جرائم النظام وميليشياته، إلا أن التورط في اللعبة حصل، فعاد الكل إلى التاريخ مرة أخرى، يستقون منه أسماء كتائبهم وشعاراتهم وفتاواهم، وصار القتل وسيلة تقرب وعبادة، حتى وصل الأمر إلى وجود عسكري طائفي عابر للحدود في شمال سوريا وجنوبها ووسطها وكل تفاصيل الجغرافيا الممكنة.. والآن فقط يمكن تفسير وجود وصمود "جزرٍ" شيعية في مناطق سوريةٍ ذات أغلبية "سنية" ساحقة، فالأمر لم يعد يحتاج تفسيراً ولا طول شرح بعد تحول قرى "الفوعة" و"كفريا" في ريف إدلب إلى معسكرات إيرانية طائفية، وكذلك "نبّل" و "الزهراء" في حلب، و"بصرى" في ريف درعا، والسيدة زينب ومحيطها في ريف دمشق، وغيرها، لقد كان الأمر إذن مُعدّاً ومبيّتاً لهذه اللحظة، والقرى المذكورة المتناثرة في طول البلاد وعرضها، لم تكن أكثر من تجمعات طائفية عسكرية، وقواعد متقدمة لإيران في قلب ساحة المعركة المُفترضة..
ولأنها ليست حرب السوريين، ولا الغاية من ثورتهم، نرى أن معظم المتورطين في الحرب الطائفية هم من غير السوريين، إيران التي بدأ زمن تصدير "ثورتها" تأتي في مقدمة المشاركين والمنتفعين والمحركين، مستعينة بأتباعها الطائفيين في المنطقة "حزب الله" ونظام الأسد، ولا تبدو الدول صاحبة القرار بعيدة عن اللعبة، فالغرب أو بعضه، بدأ يدرك الهوة الطائفية العميقة بين طرفي الصراع التاريخي، وراح يستثمرها في إذكاء الصراع وقتما يشاء وأينما يشاء، مستفيداً منها في خلق توازنات على أسس جديدة، فالطائفية صارت حاضرة ولو من بعيد، في الاتفاق النووي الإيراني، وفي صفقات السلاح، وتخويف الخارجين أو المتمردين على سلطة سادة العالم.. وفي المحصلة لم يعد العالم الإسلامي إسلامياً في التوصيف السياسي الغربي، بل هناك الآن إسلام سني وإسلام شيعي، يتصارعان ويتقاتلان كما كانا عبر قرون مضت، ولن يفني أحد الآخر، هزيمة هنا وانتصار هناك، والكل يموت لمصلحة من يدير الحرب من بعيد، والتاريخ يقول بجلاء: لم ينتصر أحد ولم يُهزم أحد في تلك الحروب، ولكن قُتل الملايين، وسيُقتل آخرون، في حروب مات أصحابها منذ قرون!..