الجفاف يكشف معالم أثرية في العراق وسوريا
انحسار نهري دجلة والفرات وجفاف أحواضهما كشف عن مدن أثرية مختفية ومدافن محفورة في الصخور ومعالم أثرية لحضارات أغنت تاريخ سوريا والعراق، البلدين الضارببن بقدمهما عمق التاريخ، إذ ظهرت معالم مدن تعود للفترة البيزنطية والميتانية والآشورية وأخرى كانت مدن ضائعة حيرت علماء الآثار على مدار سنوات طويلة من البحث والتعقيب والعجز عن تحديد أمكنتها، فقد كانت ترقد تحت المياه لسنوات طويلة.
فكانت مدن دهوك وزاخو في كردستان العراق، والرقة ومنبج السوريتين البوصلة التي أعادت لمهد الحضارة مكانتها من جديد بعد أن طفت العديد من الكنوز الأثرية على السطح وفتحت الباب امام علماء الآثار أن يتيقنوا أن هناك المزيد منها لا زالت تنتظر الوقت لتظهر من جديد.
مدينة زاخيكو الميتانية الضائعة
مواسم الجفاف التي اجتاحت العراق مؤخرا ساعدت علماء الآثار العراقيين و الألمان على العثور على مدينة زاخيكو القديمة في بحيرة سد الموصل في موقع كمونة الحديثة. أعمال التنقيب التي أجريت فيها أكدت كما يبين الدكتور بيكس جمال الدين حسن.
(مدير الآثار والتراث في محافظة دهوك) خلال حديثه لأخبار الآن إنها مدينة زاخيكو القديمة التي ذكرت في النصوص البابلية القديمة وقال: “نعم كانت مختفية فما بين عام ٢٠١٨ إلى ٢٠٢١ ظهرت أجزاء أخرى كبيرة للمدينة يعود تاريخها الى العصر الميتاني (١٥٥٠-١٣٥٠ ق.م)”.
وعن تاريخ المكتشفات التي ظهرت مؤخراً في كردستان العراق قال بيكس أنها تعود لأزمنة مختلفة نظرا لوجود الأنهار قديما ولجوء الإنسان للعيش بالقرب منها، لذلك الآثار المكتشفة تعود لحضارات قديمة مثل العصر الآشوري الوسيط وأكثر الآثار تعود للعصر الميتاني.
حضارات لازالت تحت المياه
وتحدث بيكس عن تشييد سد الموصل في عام (1985)، والذي أسفر عن اختفاء قرى ومدن و63 موقع أثري، إلا أن انخفاض مستويات المياه أعادت بعض المواقع المدفونة إلى الظهور من جديد منها في سد دهوك وزاخو ولا زالت العشرات منها مدفونة تحت المياه منها مدن ومن المتوقع أن تكون تحت مياه سد الموصل.
وفي ذات السياق تحدثت لأخبار الآن الدكتورة “ياسمين محمد علي جاسم” (المتخصصة بعلم الآثار في جامعة الموصل الحاصلة على الماجستير في الآثار القديمة من جامعة بغداد) عن المواقع والمدن الأثرية التي تتميز العراق بكثرتها وتتركز معظمها بالقرب من مصادر المياه كونها المصدر الرئيسي لحياة الإنسان وأساس قيام القرى الزراعية منذ العصر الحجري الحديث، أي قبل ما يقارب 9000 آلاف سنة قبل الآن، ومن الطبيعي بحسب جاسم وجود مواقع لا زالت مغمورة تحت المياه والبعض منها أشارت لها المصادر المسمارية مثل العاصمة المشهورة أكد عاصمة أول مملكة موحدة في تاريخ العراق القديم التي لا زال موقعها غير محدد بسبب غمرها تحت مياه الأنهار.
بينما يعتقد الآثاري زرادشت عيسو (مسؤول مكتب الآثار في منطقة الطبقة) أن استمرار انحسار مياه نهر الفرات في سوريا قد يؤدي لظهور مواقع هامة في حوض الفرات الأوسط مثل تل مريبط وتل أبو هريرة.
و حول أسباب اختفاء هذه الكنوز الأثرية الدفينة تحت المياه نوه “زرادشت عيسو” إلى أن إقامة السدود وتشكل البحيرات أدى إلى ارتفاع منسوب النهر وغرقت هذه المواقع في أعماق المياه.
وحول الحقب الزمنية التي ترجع لها المكتشفات الأخيرة التي ظهرت بعد انحسار دجلة والفرات في العراق بينت الدكتور ياسمين أن معظم المواقع الأثرية بشكل عام تضم أكثر من طبقة أثرية واحدة قد تصل الى 15 طبقة أو أكثر، وتتوزع هذه الطبقات الأثرية على عصور وأدوار حضارية مختلفة، قد يكون بعضها متداخلاً والآخر مستقلاً تماما عن العصر السابق واللاحق ، وأضافت: ” لدينا في العراق العديد من المدن والمواقع الأثرية التي بقيت مستوطنة لآلاف السنين وأصبحت مركزًا حضارياً مثل مدينة نينوى الأثرية في محافظة نينوى شمال العراق، ومدينة الوركاء ( أوروك قديما ) جنوب العراق، ومدينة بابل الأثرية في محافظة بابل “.
الرقة ومنبج
يدخل وادي الرافدين والهلال الخصيب ضمن أكثر المناطق غنى بالآثار التي يعود تاريخها لقبل الميلاد بخمسة آلاف سنة فانخفاض نهر الفرات وانحساره الكبير كشف عن أجزاء من مواقع أثرية مهمة في الرقة يحصيها الأثاري زرادشت عيسو لأخبار الآن بتل جويف، تل العبد ومدافنها، تل الشيخ حسن، وأجزاء من موقع جفلة، تل حلاوة مع مدافنها، وأجزاء من تل مريبط ومدافنها التي تعود إلى الألف العاشر قبل الميلاد. وكشف زرادشت عن سلسلة من المدافن الجنائزية المحفورة ضمن كتل صخرية كلسية أغلبها يعود للفترة الرومانية و البيزنطية في مدينة الرقة.
جفاف الفرات وانحساره الجزئي والملحوظ الذي وصل في بعض الأماكن حسبما أكده محمد الفارس (مدير مكتب الدراسات والخبرة الاثرية في مدينة منبج) من أربعة إلى سبعة متر تقريبا مما أدى لظهور عدة معالم ومواقع أثرية في مدينة منبج الواقعة في جهة الغرب من نهر الفرات بـ30كم، ومن الشمال الشرقي من مدينة حلب من أساسات بناء وآبار مياه ومدافن جماعية وقبور فردية تعود للحقب الرومانية واليونانية والبيزنطية.
الفارس أشار خلال حديثه الخاص لأخبار الآن: “الحضارات القديمة والحياة الزراعية تأسست بالقرب من ينابيع المياه وعلى ضفاف الأنهار كالسومرية والأكدية والبابلية والآشورية والكلدانية ونتيجة التنقيبات الأثرية التي أجريت قديماً على بعض المواقع لأهم مجرى مائي عرف في الماضي ألا وهو وادي الفرات، فقد اكتشفت عدة مدن وحضارات ومنها لم يكتشف بعد، وبعضها لا زالت مغمورة تحت مياه البحيرة”.
العثمانية الجديدة وطمس الآثار بالسدود
فيما لا زالت تتكشف يوماً بعد يوم معالم حضارات أغرقتها مياه نهري الفرات ودجلة اللذان اعتبرتهما الدولة العثمانية من أملاك سلاطينها واسمتهما نهرا السلطان أقدمت حكومة أنقرة على فتح مياه نهر دجلة على واحدة من أهم المعالم الأثرية في المثلث الحدودي السوري التركي العراقي وهو الجسر الروماني أو كما يفضل سكان منطقة الجسر من الأكراد بتسميته (برا بافل)، وحرمان آلاف المزارعين من زراعة أراضيهم حول الجسر وبالقرب من ضفاف نهر دجلة من الجانب السوري منذ خمس سنوات وفي الطرف الآخر من ضفاف النهر في الداخل التركي اختفت مدينة (حسن كيف) الأثرية المأهولة بالسكان منذ 12 ألف عام غالبيتهم من الأكراد تحت مياه بحيرة اصطناعية بسبب تشييد سد إليسو لتوليد الكهرباء على نهر دجلة بعد إغراق المدينة ومئة قرية وتهجير سكانها البالغ عددهم الثلاثة آلاف في 2020
وتقع حسن كيف جنوب شرق تركيا على ضفاف نهر دجلة واستقطبت معالمها التاريخية في الماضي آلاف السياح سنويا، وأدى بناء سدّ إليسو المثير للجدل إلى نزوح سكان حسن كيف إلى منطقة أخرى بعد فشل محاولات السكان والمنظمات المعنية بالدفاع عن الإرث الثقافي إقناع الحكومة العدول عن قرارها.
فغمر المعالم الأثرية من قبل تركيا أرجعه زهير الجوهري (عالم الآثار والحاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ و المتخصص في دراسة تاريخ العثمانية القديمة والجديدة) إلى مخطط قديم يعود لفترات سابقة من حكم الدولة العثمانية التي حكمت المنطقة العربية على مدار أربعة قرون.
الجوهري أكد في حوار خاص لأخبار الآن عن وثائق قديمة كشفت عن إقدام العثمانيين على تشييد سدود صغيرة على نهري دجلة والفرات وتغيير مجريهما ليتسنى لهم بالتالي التحكم في تغيير مجرى جريان النهرين وهو الذي أدى إلى طمر العديد من المدن والحضارات القديمة تحت مياه النهرين منذ مئات السنين.
وأشار الجوهري أن السدود التي شيدت آنذاك كانت لهذا السبب، وإن دمرت ولم يبق لها اثر الان لتم تشييد سدود أخرى في أماكن أخرى على النهر أو بالقرب منه وبالفعل نجحت في إخفاء تاريخ المنطقة لسنوات طويلة، وهو ما شوهد تنفيذه في حسن كيف والجسر الروماني في سوريا حديثا وقال: “عكفت الدولة العثمانية على منح الضوء الأخضر للبعثات الأثرية التي نقبت خلال فترة حكمها وسمحت لهم بسرقة آثار المنطقة كما أن الأموال التي جنتها الدولة من بيع الآثار كانت تدخل خزائن السلاطين كأموال خاصة ويعتبرون كل آثار الدول التي احتلوها هي أملاك خاصة للسلاطين، فهذه الآثار تعود لأجداد السكان الأصليين الذين حكمتهم الدولة العثمانية التي لم يبن أجدادها يوما حضارة كما الفراعنة والسومريين والحيثيين وغيرهم”.
الجوهري عقب على إقدام تركيا على بناء السدود الضخمة على نهري دجلة والفرات: “حرمت السدود سوريا والعراق الحصول على حصصهما المشروعة من المياه بموجب اتفاقيات دولية أبرمت بين الدول الثلاثة بموافقة أممية، وتعطيشهما في وقت تفتح المياه لتغرق مدينة حسن كيف الأثرية التي يعود تاريخها الى وكذلك جسر بافل في سوريا هو هدف ينصب في طمس تاريخ المنطقة”..
إجراءات لحماية المكتشفات
سباق مع الزمن للآثريين والمسؤولين في مديريات الآثار لاتخاذ الإجراءات الكفيلة لحماية الآثار المكتشفة مؤخراً في العراق وسوريا, الدولتين اللتين عانتا نزيف نهب الآثار لاسيما من قبل البعثات الأجنبية وشبكات اللصوص المنقبين عن الآثار. وعن الخطوات التي اتخذتها وعملت بها الهيئة العامة للآثار والتراث ومن قبلها المديرية العامة للآثار في العراق تحدثت الدكتورة ياسمين جاسم عن إعدادهما فرق للتنقيبات الأثرية المتخصصة والمدربة للكشف عن العديد من المدن الرئيسية والمواقع الثانوية التي شكلت مستوطنات صغيرة، مبينة أن هذه الفرق المتخصصة إما تقوم بالتنقيب لمواسم متعددة للكشف عن المدن أو المواقع بشكل كامل أو أن تكون فرق إسعافية تعمل لإنقاذ المواقع الأثرية المهددة بالغمر بمياه نهري دجلة والفرات
ومن جانبه أشار مدير آثار دهوك الدكتور( بيكس حسن ))إلى الجهود التي تنسقها مديرية الآثار في دهوك مع جامعات أجنبية لإنقاذ هذه الأماكن المكتشفة ولإظهار حضارة وتاريخ المنطقة ليكون ذلك دافعا رئيسيا ليس فقط للأبحاث والدراسات وإنما أيضا لجلب السياح إلى المنطقة..
بيكس كشف عن ترتيبات حكومات إقليم كردستان لهذا العام ورسمها خطة لإعداد برامج تنسقها مع ثلاث جامعات غربية هي توبنكن وأوديني وباليرمو لدراسة المواقع وكيفية حمايتها وإنقاذها.
وتعقيباً على دور مديرات الآثار في الشمال السوري على حماية المكتشفات مؤخراً في منبج والرقة علق زرادشت عيسو (مسؤول مكتب الآثار في منطقة الطبقة) بالقول: “دور مديريات الآثار في هذه الفترة يقتصر على مسألة حماية المواقع كأهمية أولى ومن ثم توثيق هذه المواقع، أما بالنسبة لعملية التنقيبات فالظروف الحالية ليست مناسبة لأعمال التنقيب كونها تستدعي أعمالاً أخرى من الترميم والحفظ في المتاحف”.”.