تعد قضية دولة الأحواز العربية المحتلة إحدى أكثر القضايا نسياناً وتجاهلًا في عصرنا الحالي رغم أهميتها وارتباطها بالعديد من الملفات الإقليمية والدولية، فهي تقع على الشاطئ الشرقي للخليج العربي وتبلغ مساحتها 375 ألف كيلومتراً مربعاً، ويعيش بها ما يُقدر بثمانية ملايين عربي ينتمون إلى قبائل وعشائر مختلفة، يعانون الاضطهاد الممنهج من جانب سلطات الاحتلال الإيراني.
وقد حافظت هذه الدولة الخليجية على استقلالها حتى عام 1925 حين احتلها الفرس بتواطؤ من الإنجليز، ونظم أهلها عدة انتفاضات وثورات تم قمعها بمنتهى القسوة وارتكاب مجازر مروعة بحق السكان، وعلى مدى قرابة قرن من الزمان مارس الاحتلال نهبًا متواصلاً لموارد المنطقة التي توصف بأنها جنة تمتلئ بالثروات الهائلة من النفط الخام والغاز الطبيعي والثروات الحيوانية والأنهار المتدفقة والأراضي الخصبة والبساتين المثمرة بخلاف معظم أنحاء إيران.
ومثل بقية دول الخليج العربي تضم الأحواز حقولًا نفطية برية وبحرية كبيرة، ويأتي منها معظم نفط وغاز إيران، فتسعين بالمائة تقريباً من النفط الذي تصدره يأتي من تلك المنطقة وتعد أهم مصادر إيراداتها، وبسببها تحتل طهران المركز الرابع عالمياً في قائمة أكبر احتياطيات نفطية في العالم.
توصف الأحواز بأنها بلد غني وشعب فقير، فرغم كونها إحدى أغنى بقاع الأرض بالنفط والغاز، إلا أن ذلك كان نقمة عليها؛ فمنذ العثور على أول بئر نفطي في الشرق الأوسط في تلك البقعة عام 1908، تزايدت أهميتها وزادت المطامع الإقليمية والدولية حتى احتلتها جيوش الفرس، واجتهدوا في محو هوية أهلها وتذويبهم فأطلقوا على المنطقة اسم فارسي وهو “خوزستان”، بعد أن كانوا يطلقون عليها “عربستان” أي أرض العرب، وأجبروا السكان على التحدث بالفارسية، وحظروا عليهم استخدام لغتهم العربية، وحرموهم من التوظيف حتى تفشت بينهم البطالة والفقر، وتدنت أحوالهم المعيشية بشكل كبير مع حرمانهم من الخدمات الأساسية حتى أن المطالبة بتوفير مياه الشرب تعد قضية سياسية يُعاقب مرتكبوها بالاعتقالات أو حتى الإعدام.
أزمة الشتاء والصيف
أصبحت السدود الكثيرة المنتشرة في الأحواز أداة من أدوات التهجير القسري ففي الشتاء تفتح سلطات الاحتلال الإيراني المياه لتغرق القرى والمحاصيل وتشرد الآلاف وتتدخل قوات الحرس الثوري لتهجير السكان بحجة إنقاذهم من الغرق في خضم هذه الفيضانات المصطنعة.
أما في فصل الصيف فقد أصبح من المعتاد كل عام أن تندلع احتجاجات غاضبة تطالب بتوفير مياه للشرب والزراعة، إذ تحبس السلطات المياه عن أراضيهم حتى تُهلك الأنعام والحرث، فمنسوب المياه في الأنهار انخفض بشكل غير مسبوق في أنهار الكرخة وكارون والدز والجراحي بسبب مشروعات نقل المياه إلى المناطق والمدن الفارسية المجاورة مثل أصفهان وكرمان ويزد، فضلاً عن تجفيف معظم مساحات أهوار (بحيرات) الحويزة والعظيم والفلاحية، وإقامة مشروعات نفطية وصناعية في أراضيها مما تسبب في دمار بيئي ضخم لأكبر موطن للماشية والحيوانات البرمائية.
وبسبب تدمير الموطن الطبيعي للحياة البرية باتت بعض أنواع الأسماك والثدييات (خاصة جاموس الماء) والطيور المهاجرة تواجه خطر الإبادة في المنطقة التي تضم أنواعاً عديدة من الطيور المهددة بالانقراض عالميًا، فالنفايات السامة قتلت الطيور بالآلاف، وتم تجريف أخصب الأراضي للوصول للنفط، ومصادرة مناطق القرويين للصناعة.
ولم ينل السكان العرب من ثروات أرضهم الهائلة إلا استنشاق عوادم المنشآت النفطية والتأذي بنفاياتها مما سبب انتشار الأمراض بينهم، وصارت المنطقة من أشد مناطق العالم تلوثًا، ولم تعد بعض الموارد المائية صالحة للاستخدام الآدمي مثل نهر كارون بعد تحويل السلطات له إلى مكبّ للنفايات الكيميائية السامة.
وأثر المستوى المذهل لتلوث الهواء على السكان المحليين وأغلبهم من العرب، وأصبح متوسط العمر المتوقع هو الأدنى مقارنة بالمناطق الأخرى في إيران، وانتشرت مشاكل الجهاز التنفسي والسرطان والاضطرابات الصحية الأخرى، بعد اجتماع كل أسباب التلوث؛ فالعواصف الترابية ارتفعت وتيرتها بسبب التصحر الناجم عن تجفيف الأنهار والأهوار، فضلاً عن المخلفات الصناعية الضارة الصلبة والسائلة والغازية، في ظل ضعف الرعاية الطبية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أحداث عام 2005 حين تسربت وثيقة حكومية سرية منسوبة لنائب الرئيس الإيراني آنذاك، كشفت مخططًا للتغيير الديموغرافي تضمن مشاريع تهدف لتخفيض أعداد السكان العرب إلى حوالي الثلث عن طريق الهجرة القسرية، والقضاء على الآثار الثقافية واللغة العربية في المنطقة، مما أشعل احتجاجات دامية راح ضحيتها قتلى وجرحى واعتُقل المئات من المحتجين، وفي نفس العام زار المنطقة المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالسكن اللائق، ميلون كوثري، وحذر علنًا من محاولات تهجير ما بين 200 ألف و ربع مليون عربي من قراهم بسبب مشاريع حكومية، وانتقد محاولات إحلال السكان العرب بأشخاص يتم جلبهم من مقاطعات أخرى فارسية، وتوفير وظائف وحوافز جزيلة لهم لا تُعطى لسكان المنطقة الذين يتم طردهم من أراضيهم وعرض تعويضات أحيانًا تساوي واحدًا على أربعين من قيمتها السوقية، دون ترك أي خيار آخر لهم، ووثق حينها الظروف المعيشية السيئة للغاية في الأحياء العربية، التي تفتقر إلى الصرف الصحي والمياه والكهرباء وحتى الغاز المتوافر بكميات هائلة من حولهم.
فالدمار البيئي في الأحواز ليس ضحية الطبيعة، لكنه جزء من مشروع سياسي ممنهج تتفق عليه النخبة السياسية الإيرانية بمتشدديها وإصلاحييها، فهناك إجماع على ضرورة استمرار مظالم العرب ومعاملتهم لا كمواطنين من الدرجة الثانية بل كأعداء، ولذا يرى الأحوازيون أن البيئة وحق تقرير المصير قضيتان متلازمتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى، فالنشطاء السياسيون هناك هم أيضًا نشطاء بيئيون لأن الاحتلال يستهدف ليس فقط السكان الأصليون للمنطقة، بل الحجر والشجر والحياة البرية بكاملها، ويسعى لإفناء كل ما على هذه الأرض بعد امتصاص خيراتها.