أخبار الآن | الحسكة – سوريا (عبد الرحيم سعيد)
تفتح "أم محمد" دكانها الواقع في شارع البلدية بمدينة عامودا في التاسعة صباحا كل يوم، وهي على أمل أن تربح ما يكفيها مصروف أولادها الثلاثة بعد أن توفي والدهم وأصبحت هي المتكفلة بهم.
أم محمد لجأت من الشدادي "معقل داعش السابق في الحسكة" إلى "عامودا" شمال المحافظة والخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية، ورفضت أن تبقي أطفالها جياعأ أو تحت رحمة الجمعيات والمنظمات الإنسانية، تلك المرأة التي شاهدناها قوية متكلمة وواثقة من نفسها "وهي ليست بصفات غريبة فالظروف التي مرت بها النساء في بلد عاش الويلات جعلت منهن أقوياء يعتمدون على أنفسهم كالرجال"؛ تفتتح دكانها يومياً دون كلل أو ملل: "فتحت المحل لأنه كان عندي بعض المال ورأيت أنه إن لم أعمل فستنتهي نقودي، وسأضطر لمد يدي للجمعيات والمنظمات وهذا لا أريده".
إنها تعتقد أنه لو كان عندها جبل من المال وجلست دون عمل فستنتهي، وستنتظر بعدها صدقات الناس "وأنا لن أربي أطفالي من صدقات الناس"، تقولها لنا أم محمد بصوت مرتفع منفعل.
لم يعترض أحد من أهلها على قرارها بفتح دكان صغير لبيع المواد الغذائية وألعاب الأطفال في مساحة لا تتجاوز 30 مترا: "في البداية استأجرت محلاً صغيراً كي أضع فيه ما جلبته معي من الشدادي من أغراض منزلي، وبعد بيعي لتلك الأغراض قررت أن أستغل المحل تجارياً وأبيع فيه ألعاب الأطفال ومواد غذائية".
من التدريس إلى البيع
"أم محمد" متخرجة من كلية الآداب في جامعة الفرات، كانت قد قررت أن تفتح معهدا للدورات التعليمية في عامودا ولكن المناهج تغيرت وتم إلغاء المناهج القديمة من المدارس، ولم يبق للتعليم أي مكان "كما قالت لنا".
الأم تستيقظ في الساعة السادسة صباحا لكي تجهز الغداء والفطور قبل أن تذهب لعملها، واشترت لأطفالها هاتفاً للتواصل معهم عند الضرورة، وأحيانا تأخذهم معها، وتحاول قدر المستطاع أن توفق بين عمل الأم والأب والمعلمة.
"انتقلت من الشدادي إلى عامودا من أجل تعليم أفضل لأبنائي ولكنني صدمت بالمناهج هنا أيضاً"، بهذه الكلمات شرحت لنا "أم محمد" سبب نزوحها من مدينة الشدادي جنوب الحسكة ومعقل داعش القديم في المحافظة.
أم محمد لديها ثلاثة أطفال أكبرهم في الصف العاشر وأصغرهم في الصف الثاني الابتدائي، نزحت من مدينة الشدادي مع أولادها الأيتام بعد أن أغلق داعش المدارس ومنع التعليم بحجة أن المناهج لا تتضمن تعاليم ودروس الدين بشكل كاف، فقررت الانتقال لمدينة عامودا لعلّها تؤمن لأطفالها تعليماً مناسباً، غير أنّها لم تكن تعلم أنّ المناهج في تلك المدينة الواقعة شمال المحافظة على الحدود التركية قد تم تغييرها بطريقة لا ترضاها أم محمد لأبنائها: "قبل أن يأتي داعش كانت المدارس نظامية ولكن بعد أن احتل المدينة أغلق المدارس بحجة الاختلاط والمناهج التي تفتقر لتعاليم الدين الاسلامي، كما قالوا".
البحث عن الاستقرار والمستقبل
لم يكن التعليم السبب الوحيد لنزوحها مع أطفالها، فالحفاظ على نفسية أبنائها والهدوء كان أيضاً من الأسباب التي دفعتها للهجرة، فكلّما كانت تسقط براميل متفجرة على المنطقة كانوا يسارعون لجلب أطفالهم من المدارس خوفاً عليهم، و مليات الذبح التي كان يقوم بها داعش كانت تلزم أم محمد على أن تحبس أولادها في المنزل لكي لا يروا هذه المناظر: "كنت أحجز أولادي في المنزل لكي لا يروا مناظر داعش والقتل، فعندما رأى ابني يوماً مشهدا للقتل لم يتكلم لمدة شهر تقريباً. كنّا سابقاً نأخذهم أسبوعياً للملاهي، ولكن بعد احتلال داعش انقطعت الطرق فأصبحوا محجوزين في المنزل".
قصة النزوح لأم محمد لم تتوقف حتى ضمن المدينة، فهي منذ أن وصلت للمدينة نزحت مرتين داخلها بحثاً عن منزل أفضل وبسعر مقبول، وهي الآن تبحث عن منزل آخر لتنتقل للمرة الثالثة ضمن المدينة، فالمنزل الأول كان عبارة عن خرابة "كما وصفته لنا" وبأجر مرتفع ، لذلك قررت البحث لها عن خيار أفضل، ولكنّها لم تعثر إلا على منزل بعيد إلا أنّه أحسن من تلك الخرابة: "غيرتُ منزلين حتى اليوم والآن أبحث عن منزل آخر ولكن الأسعار غالية كثيرا، لذلك فمن الصعب أن أجد منزلا قريبا وبسعر مقبول. قبل عدة أيام سألت عن منزل قالوا لي بـ 35000 ليرة، وأنا الآن أعيش في منزل بـ 13000 ليرة شهرياً".
مسيرة النزوح والتنقل بحثاً عن الأفضل لن تتوقف عندها، فأم محمد لن تبقى في عامودا فهي تبحث لأبنائها عن مدارس جيدة وتعليم أفضل، وستنتقل في السنة المقبلة إلى مدينة الحسكة سعياً وراء هدفها، وهي لا تعلم هل ستتوقف قصتها مع النزوح هناك أم أنّها ستواصل التنقل حتى ترضى بمكان لها و لصغارها.