أخبار الآن | القامشلي – سوريا (بهزاد حمو)
يحبسُ "محمود" دمعته وهو يتحدَثُ أمام أحد المسؤولين في الإدارة الذاتية، أثناء تفقّد الأخير لمخيم "مبروكة" في الحسكة، حيث يقيم ومئات السوريين من أبناء المحافظات الشمالية والشرقية. بصوت منكسِر يقول محمود، القادم من بلدة خشام بريف دير الزور، إن والدته المسنّة توفّيتْ في مدينة الحسكة منذ يومين، أثناء محاولته الحصول على إذن بالخروج من أراضي سيطرة داعش: "تمكّنتُ بعد عناء طويل من الحصول على إذنٍ من ولاية الرقة باتجاه مقاطعة الجزيرة، لألحق دفن والدتي على الأقل". لكن محمود اقتيد عند أول حاجز للأسايش "جهاز الأمن الداخلي في الإدارة الذاتية" على مدخل بلدة مبروكة، إلى مخيم بائس على أطراف البلدة، حيث لم تسمح له، ومن معه، بمغادرة المخيم قبل الانتهاء من "الإجراءات الأمنية".
أوائل العام الجاري 2016، افتتحت الإدارة الذاتية في مقاطعة الجزيرة "محافظة الحسكة" مخيماً لاستقبال النازحين من مدن وأرياف الرقة ودير الزور في بلدة مبروكة، 40 كم جنوب غرب مدينة رأس العين، أي تماماً على تخوم المحافظتين "دير الزور والرقة" الخاضعتَيْن بمعظمهما لسيطرة داعش.
هذه المعطيات الجغرافية "الفريدة" لبلدة مبروكة، حوّلتها لاحقاً إلى نقطة العبور الوحيدة لدخول مقاطعة الجزيرة من باقي أنحاء سوريا، وعقب المعارك الأخيرة التي سيطرت من خلالها "قوات سوريا الديمقراطية" على معظم الريف الجنوبي لمحافظة الحسكة، أغلقتْ بذلك جميع الطرق والمنافذ البرية الأخرى.
مخيم للمهجرين العرب!
على مساحة 20 دونماً وسط الأراضي الزراعية، نصبت الإدارة ما يقارب 40 خيمة لإيواء عشرات العوائل العربية الهاربة من وطأة الحرب، والتي لم تجد كفيلاً يضمن انتقالها للعيش في مناطق الإدارة الذاتية، أو ارتضتْ العيش في تلك الخيم على اعتبارها لا تملك معيلاً أو دخلاً يضمن لها العيش في مدن "المقاطعة". بدوره أصبح المخيم مسكناً مؤقتاً لعشرات السوريين ممن يريدون العبور في أراضي المقاطعة لأغراض "معروفة وموجبة" وفق توصيف إدارة المخيم، أي بقصد السفر عبر مطار القامشلي أو العلاج. هذه حكايات يرويها مقيمو المخيم "المؤقتين" ممن تقطّعتْ بهم السبل، وأصبحوا بمحض الحرب، عابرين لـ "حدود" جديدة تُرسم.
حدود جديدة أم مجرد ضرورات أمنية؟
في مخيم مبروكة، وبين حديث "حج فؤاد الباشا" المسؤول في الإدارة الذاتية، وحديث الأهالي، أصوات السوريين الذين فرزتهم المعطيات الجديدة للحرب وفق منطق السيطرة العسكرية. فبينما يبرر الأول وجود المخيم "بالضرورات الأمنية، وحماية أمن المنطقة" يعترض الكثير من العابرين على وضعهم في المخيم، ويجدون فيه أمراً يعيق تنقلهم. حيث يظهر البعض منهم أوراقاً ثبوتية تتضمن صوراً عن إقاماتهم في دول الخليج العربي ستنتهي خلال أيام، لدفع القائمين على المخيم للاستعجال في إخراجهم. آخرون كثر قدموا إلى المنطقة للعلاج في مشافيها أو السفر جواً إلى مشافي العاصمة.
"أبو عزّام" السبعيني عاد إلى المخيم من مشفى "روج" في مدينة رأس العين، للحصول على بطاقة جديدة تسمح بنقله للعلاج في مشافي القامشلي: "خرجنا بالأمس من المخيم باتجاه مدينة رأس العين، وهناك أخبرنا الأطباء بضرورة نقله إلى القامشلي، لكنهم اشترطوا علينا الحصول على إذن جديد من المخيم، كون التصريح القديم انتهت صلاحيته اليوم صباحاً".
تمنح إدارة المخيم إذناً مؤقتاً بالسفر "لغاية 24 ساعة غير قابلة للتجديد إلا في الحالات المرَضيّة" لمن يحمل ما يثبتُ سفره عن طريق مطار القامشلي الدولي، سواء إلى داخل سوريا أو خارجها. ويؤكد "حج حسن" الإداري العام لأسايش مبروكة إن هذا ليس سوى إجراء أمنيا "حيث أننا لا نملك قاعدة معلومات أمنية عمن يودّ دخول مناطقنا".
من جانبه يروي "سليمان عبد العزيز" مدير مخيم مبروكة حادثة إلقائهم القبض على مجموعة من عناصر داعش كانت قد تسللت بين الأهالي.
يجلس المهندس الزراعي "عدنان" بالقرب من بوابة المخيم منذ ليلة أمس، ينتظر الرجل قرار "الإفراج عنه" من قبل إدارة المخيم، كما يعبر عن حالته. وصل عدنان الليلة الماضية مع شابين آخرين وعائلة رقاوية، بعد أن قطعوا مشياً على الأقدام عشرة كيلومترات في طريق ترابية. دفعت المجموعة لسائق الشاحنة خمسون ألف ليرة عن كل راكب، مقابل نقلهم من الرقة إلى مدينة القامشلي، "إلا أنه تركَنا على مسافة كيلومترات عن حدود محافظة الحسكة، بعد أن كشفت أمرنا دورية تابعة لداعش".
من جهته، يمنع داعش خروج أي مواطن من مناطق سيطرته بشكل "رسمي"، ويعتبره جرماً يستحق العقاب، باستثناء الحالات المرضيّة التي لا علاج لها في أرضه، الأمر الذي يحتاج بدوره لإجراءات طويلة ومعقّدة يفرضها "ديوان الحسبة" الذي يجبر الناس أحياناً على الالتحاق بدورة شرعية لـ 15 يوماً، قبل خروجه من أراضيه.
هذه التعقيدات تدفع الراغبين بالسفر إلى محافظة الحسكة، إلى دفع مبالغ مالية ضخمة للمهربين وسائقي الشاحنات التجارية، تصل في بعض الحالات إلى أكثر من 100 دولار عن كل شخص.
مركز التحويل التجاري في مبروكة
غرب بلدة مبروكة، والتي انتزعت الوحدات الكردية السيطرة عليها صيف العام الفائت، تقف عشرات الشاحنات المحمّلة بالبضاعة القادمة من الداخل السوري، في ساحة ترابية، بانتظار إذن العبور إلى أراضي "روج آفا"، حيث تمنع الإدارة الذاتية السيارات المحملة بالبضائع من دخول المقاطعة، من دون الخضوع لإجراءات أمنية وإدارية دقيقة. "باستثناء المواد الغذائية القابلة للتلف" بحسب حج حسن، فهي لا تمكث إلا ساعات قليلة.
تنقسم الباحة، التي يطلق عليها مسؤولو الإدارة "مركز التحويل التجاري" إلى ساحتين، تتوقف الشاحنات والبرادات القادمة لتوها في الأولى، في انتظار نقلها إلى الساحة الثانية لإجراء عمليات التفتيش وإنزال كامل الحمولة، ومن ثم نقلها في أحيانٍ كثيرة إلى شاحنات من داخل المقاطعة "تحمل نمرة الحسكة أو مسجّلة لدى الإدارة الذاتية"، ويبرر القائمون على العملية هذا الإجراء بالقول: "ناهيك عن الضرورات الأمنية، فإن هذا المركز يؤمن في الوقت الحالي دخلاً لا بأس به لما يقارب 400 عامل من أبناء المقاطعة، يقومون بإنزال الحمولة ونقلها إلى سيارات أخرى، عدا عن الاستفادة التي يجنيها سائقو سيارات وشاحنات المقاطعة".
يجلس "أبو حازم" منهكاً في فيء شاحنته، حيث أمضى 45 يوماً في هذه البرية بانتظار العبور إلى إقليم كردستان العراق، واليوم قرر العودة بحمولته "حُصر بلاستيكية وفرشات" من حيث أتى، بعد أن قطع الأمل بفتح معبر "سيمالكا" بين الإقليم والحسكة.
يختصر أبو حازم في رحلته من دمشق إلى الحسكة حكاية الخارطة السورية والخرائط الجديدة: "نخرج من شمال العاصمة وندفع عند كل حاجز للنظام رسوماً ومبالغ اعتباطية، حتى أن أحد حواجز الأخير، بات يُعرف بحاجز المليون. إشارة إلى الرقم الذي لا بد أن يحققه الحاجز يومياً بأخذ الأموال من العابرين. نصل أراضي داعش، وعند أول حاجز للدواعش يتم توقيفنا وتفتيش البضاعة وفرض رسوم جمركية أيضاً، مقابل السماح لنا بالعبور في أراضيها، إلى أراضي روج آفا…" يتوقف أبو حازم عن الحديث فجأة وينتبه إلى كوننا "أكراد" لينهي حديثه بثقة مصطنعة: "هاد أفضل كانتون شفتو بكل سوريا الحمد لله".
وَعدَ المسؤولون "محمود" بالخروج من المخيم غداً صباحاً؛ فبعد أن ماتت والدته دون أن يراها، وتخلّف عن دفنها، يتفاءل بحضور عزائها في مدينة الحسكة "ولو آخر يوم"، ومن ثم يصطحب شقيقته إلى محافظة الدير مجدداً: "بانتظاري رحلة العودة .. الله المستعان".