أخبار الآن | سوريا – (يمنى الدمشقي)

"أمهات المعجزات"، لسن هنَّ من أطلقن على أنفسهن هذا اللقب، لكن ربما الحياة التي باتوا يعيشونها بكل ما فيها من ظروف قاسية زادت في قسوتها مرارة الحرب؛ تستحق أن تصنفهن تحت هذا المسمى.

هنَّ مجموعة من السيدات اللواتي اختبرتهن الحياة بأن يلدن أطفالا من ذوي الاحتياجات الخاصة، بعضهم مصاب بمرض التوحد وبمتلازمة "داون" وآخرون بزيادة كهرباء الدماغ، وأطفال لديهم احتياجات تختلف تماماً عن احتياجات أي طفل طبيعي.

تجمعن سوية ليتبادلن الخبرة والمشاكل بين أطفالهن، سيدات بذلن المستحيل ليكن فعلاً خارقات غير متأثرات بمجتمع لا زال يرى تلك الفئة أقل منه بكل شيء، بينما يحاولن جاهدات أن يظهرن أنهن فئة من هذا المجتمع ويفرضن تقبلها بشتى الطرق.

ولأن هذه الفئة ليست بعيدة عما يجري في سوريا من قتل ودمار ودم، فقد كانت جزءاً أساسياً من الحرب، لكن هل آثار الحرب كانت سوءًا عليها وعلى غيرها؟!

كيف تأقلم مرضى "التوحد" من التغيير القسري في حياتهم؟

تحكي "إيناس" وهي أم لطفل متوحد تجربتها لأخبار الآن: "كنت أعيش في تلكلخ في ريف حمص، وشاء القدر أن يولد طفلي توحدي، وبسبب كونه هكذا فإنه متعلق بأشيائه الشخصية بشدة، يفضل دائماً أن يضع نفسه في دائرة منعزلة عن الآخرين ويتعلق بالروتين بشكل كبير، ولدرجة تعلقه فإنه إذا حدث أي مكروه للعبة من ألعابه يبكي بشدة وكأنها كائن حي، فكيف إذا رأى غرفته مدمرة أو بيته مهدماً! لذلك فإن اشتداد المعارك هناك أثّر على نفسيته بشكل كبير، بدأت رحلة نزوحنا من بيت لآخر وبدأت معها معاناة طفلي، بات يأكل في بيت غير بيته، ويلبس في غرفة غير غرفته، حاولت جاهدة ألا أشعره بهذا التغيير لكن محاولاتي باءت بالفشل، حتى أنني كنت أحمل حاسوبي الشخصي وأمرره بين الحواجز ليتفرج على ما يفضله من برامج إلا أن أمري كشف على أحد الحواجز وقاموا بأخذه مني، إلى أن اضطررنا أخيراً للسفر خارج سوريا، وهنا خسر طفلي مدرسته وحياته وكل أشيائه الشخصية، حتى أبسط حق من حقوقه وهو التعليم، وصلنا إلى السعودية وإقساط المدراس لذوي الاحتياجات الخاصة كانت فلكية تصل إلى 6000 دولار سنوياً، فبتُّ أعمد إلى تعليمه في المنزل عبر ورشات تدريبية للأمهات، حالياً طفلي بلغ العاشرة من عمره بات يتعود قليلاً على الحياة الجديدة لكنه خسر تعليمه".

داخل سوريا .. حرب نفسية وغلاء فاحش ينذر بسوء أوضاعهم

أما "ندى" وهي سيدة آثرت البقاء في سوريا، لا لشيء سوى قلة الحيلة واستحالة السفر وسلوك طرق التهريب مع طفل مريض توحد، تقول: "رغم أننا نعيش نوعاً ما في منطقة شبه آمنة، إلا أن للحرب أشكال كثيرة باتت تنهش بنا، ليس أولها القصف والرعب وليست نهايتها الغلاء الفاحش الذي بات ينهش أجسادنا، ثم انعدام الأدوية والأغذية الأساسية التي يحتاجها مريض التوحد، في البداية كنت أتمكن من تأمين مستلزمات طفلي عن طريق السفر إلى الأردن لكن منع علينا دخول الأردن ولم أعد أتمكن من تأمينه، ونظام حميته بات يكلف الكثير، لم أعد أتمكن من تأمين الحليب الخاص بها ولا الكعك حيث وصل سعر العلبة منها إلى 4500 ليرة سورية فصرت أعتمد على حليب اللوز حتى وصل كيلو اللوز إلى 5000 ليرة، فصرنا نستعيض عن ذلك بحليب الإبل فلم يعد هناك إبل فاستغنينا عن الحليب كله، أما الخبز الخاص به فلم أعد أتمكن من تأمينه فصرت أصنعه منزلياً وهو من نوع طحين "تابيوكا" المستورد، إلى أن وقف الاستيراد ولم أعد أتمكن من تأمينه، كذلك الأمر بالنسبة للعسل حيث وصل سعر الكيلو إلى 6000 ليرة، لم أعد أتمكن من تأمين أغلب متطلباتها ولم يتبق أمامي إلا المكملات الغذائية التي تكلفني شهرياً 35 ألف ليرة إضافة إلى أدوية أخرى تتعدى قيمتها 50 ألف ليرة، أما أقساط المدرسة الخاصة بها فتكلف شهرياً 50 ألف ليرة، إضافة إلى تكاليف التحاليل الدورية التي يجب أن تقوم بها بشكل مستمر، ورغم أني وزوجي نعمل إلا أننا في الحقيقة نكاد نعجز عن تأمين كافة هذه الاحتياجات، الجميع يتابع الحرب ويتناسى وجود فئة مستضعفة كهذه لا حول لها ولا قوة".

ولـ "أم حلا" قصة شبيهة تحكيها لنا قائلة: "كان عمر حلا أربع سنوات عندما تم اقتحام مدينة "الهامة" بالدبابات، كان يوماً فظيعاً حملت وقتها أطفالي وهربت إلى الجيران، لكن اشتداد صراخ حلا جعل الجيران يضجرون منها، وبهذا الوقت تحديت القصف والدبابات في الرابعة صباحاً وخرجت لأحضر لها دواء من الصيدلية لتنام وتهدأ، وخرجنا بعدها من المنطقة، لم يكن لدينا أي مكان نذهب إليه فأهلي في منطقة محاصرة وأن تذهب مع طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة لأحدهم فذلك أمر شبه مستحيل، اضطررنا للمكوث في غرفة في فندق، ولك أن تتخيل حجم المعاناة أن يعيش طفل معه فرط نشاط وحركة ومريض توحد في غرفة صغيرة، استأجرنا بعدها منزلا ووضع "حلا" يزداد سوءاً مع عدم تأقلمها مع البيت الجديد، وكانت تنتابها موجات بكاء غير اعتيادية، أما نوبات الغضب فلم تكن تفارقها مع نوبات غضب من الجيران من أصواتها المرتفعة، بعد ذلك اضطررنا للعودة إلى منزلنا القديم لتبدأ معاناة جديدة وهي اعتياد حياة جديدة بعدما تأقلمنا مع حياة البيت السابق، وتستمر معها مشكلة الغلاء الفاحش والعجز عن تأمين كافة المتطلبات والأدوية إضافة إلى تجاهل المجتمع ونبذه لهذه الفئة".

ازدياد العنف يسهم بخلق المشكلة لدى الأطفال

وتحكي "أمل" قصتها قائلة: "كان عمر ابنتي ست أشهر عندما بدأت أراها تبصر بشكل غير طبيعي، أخذتها إلى طبيب الأطفال وأجريت لها التحاليل والصور اللازمة وأظهرت التحاليل عدم وجود أي خلل، لكني أصررت على طبيب الأطفال بوجود خلل فالطفلة وضعها غير طبيعي! فقام بتحويلي إلى طبيب أعصاب أجرى لها تخطيطاً للدماغ لنكتشف وجود كهرباء زائدة في الدماغ، وبدأت هنا رحلة علاج ابنتي "ملكة" التي لم يكن علاجها صعباً في البداية وكانت الأدوية متوفرة وبدأت حالتها بالاستقرار ولم تعد تظهر لديها الاختلاجات السابقة، حتى الكهرباء الزائدة في الدماغ لم تعد تظهر إلا في التخطيطات، وبدأت ترتاد معاهد التأهيل وتتعلم القراءة والكتابة وتزامناً مع ذلك كنا نذهب بشكل دوري إلى الطبيب كل ستة أشهر لإجراء تخطيط للدماغ، لأفاجئ في 2012 بسفر طبيبتها إلى فرنسا وسألنا عن أي طبيب بديل في مدينة حلب ولم نجد إلا طبيبة واحدة اعتذرت عن استقبالنا، وبحلول عام 2013 تعرضت طفلتي لضغط نفسي رهيب جداً ساهم بتفاقم حالتها وبدأت الاختلاجات تظهر لديها مجدداً بل وتتفاقم بشكل كبير خاصة عند سماع صوت طيران أو قصف، وما زاد في سوء الأوضاع أن الأدوية التي تتناولها بدأت تنقطع من السوق، حتى قررنا في النهاية الانتقال إلى مدينة حماة علَّ الأوضاع هناك تكون أفضل، هدأت نفسية "ملكة" قليلاً إثر عدم وجود قصف كبير مقارنة بحلب، إلا أن طارئاً جديداً بدأ يؤثر عليها وهو تغيير الجو الدراسي فقد كانت معاملة المدرسات لها في المدرسة سيئاً جداً وكانت مدرستها تناديها "يا جدبة" وهذا سبب لها تراجعاً في دراستها، ولم تعد تجدي توسلاتي نفعاً لدى مكتب التربية في حصول ابنتي على أدنى حق من حقوق الإنسانية، وفي عام 2015 سمعنا عن طبيبة عصبية في دمشق يلزمنا انتظار لمقابلتها ثلاثة أشهر لكن كان علينا السفر لأن ملكة قد انقطعت عن زيارة الأطباء، وبالفعل استغرق معنا الطريق وبشكل شاق 6 ساعات، وبعد التخطيط الذي أجرته تبين أن حالتها تزداد سوءاً فغيرت لها الطبيبة الدواء وبدأت رحلة معاناة جديدة وهي البحث عن دواء، كان زوجي يبحث في أكثر من 30 صيدلية حتى يجده، لكن الأهم من كل ذلك أن الطبيبة طلبت من ملكة ألا تخاف ولا تتوتر ولا تنزعج! وكيف لها ألا تخاف ونحن نعيش هنا الموت ألف مرة وبألف شكل؟! وكيف لها ألا تنزعج وهي لاتزال تسمع بشكل دوري سخرية من ولها منها ورفضهم لوجودها فيه".

في كل عام وفي يوم 2 أبريل يحيي العالم "يوم التوحد العالمي" الذي تمت تسميته من قبل الأمم المتحدة، تذكيراً بوجود فئة لها أهمية كبيرة في هذا المجتمع، إلا أنه حتى الآن لم تتحرك المنظمات الإنسانية لإيجاد حل لتخفيف وطأة الحرب على هذه الفئة تحديداً، وبالمقابل المجتمع لازال يتجاهلها ولا ينظر لها إلا بعين السخرية أو الشفقة رغم استطاعة تفوق البعض منهم على الطبيعين أقرانهم.