أخبار الآن | دمشق –  سوريا (زينة العلي)

 

لا تنتهي قصص الاعتقال المؤلمة والمفاجئة بحكاياتها الغريبة، فلا يزال النظام يمارس هوايته في ابتكار فنون العذاب السوري وسيناريوهات الموت اليومي.

أم لمعتقلة وشهيد وملاحق

"أم محمد" واحدة من هؤلاء الأمهات، حدثتنا عن أبنائها وذكريات عيد الأم قائلة: "أنا أم لخمسة أبناء، خرجنا من محافظة دير الزور حين دخل النظام إليها في ثان اقتحام له أي في نهاية الشهر السادس من عام 2012، وتركتُ أكبر أولادي هناك، فقد كان مطلوباً للخدمة الإلزامية بعد أن أنهى دراسته الجامعية، وقد انتابني الخوف من اعتقاله وزجه في صفوف الجيش، تركتُ جزء من قلبي معه، ولم أره منذ ذلك التاريخ".

وتكمل: دخلت فصائل وتنظيمات كثيرة إلى المدينة، وكان ولدي يصر على عدم عودتنا إلى الدير الى أن اعتقله داعش منذ أكثر من ستة أشهر، وقام بإعدامه بتهمة أنه لم يوافق على مبايعته وأنه كان يعمل ضده، لم أشاهد من ابني غير الصور، ولا أعرف له قبراً ولا أصدق انه استشهد، كان أقرب أبنائي إلي.

في دمشق تابع بقية أبنائي عملهم في الثورة، فعملت ابنتي الكبرى في الإعلام وتم اعتقالها أكثر من مرة، ولا زلتُ لا أصدق كيف مرت أشهر اعتقالها عليّ، الى أن خرجت بعد شهرين من اعتقالها الأول وتعود إلى السجن بعد أشهر فقط لتعتقل مرة أخرى. وبعد خروجها، كان لابد أن تهرب من بطش النظام خارج البلاد، فغيابها وهجرتها أهون بكثير من فكرة اعتقالها مرة أخرى.

ابنتي الثانية ما زالت في السجن الى الآن، حيث تم اعتقالها سنة 2013 بتهمة الإغاثة، كانت تحب مساعدة الناس وتقف مع الأسر القادمة من دير الزور، فقام النظام باعتقالها ومحاكمتها لمدة 7 سنوات.

طفلي الآخر لم يتجاوز 15 من عمره، وقد اعتقله النظام أيضاً بتهمة أنه ينتمي إلى دير الزور أرض داعش، بقي بين أيديهم ثلاثة أشهر عانى فيها فنون العذاب وعانيتُ معه مرّ الانتظار والصبر.

لا أفكر في أن أولادي ضاعوا مني، فكم من أم سورية خسرت كل أبنائها، ولم أعد أملك في حياتي سوى حلماً واحدا يبدو مستحيل التحقق، أن يكون كل أبنائي حولي يوما ما.

أمهات معتقلات

راتب شاب يبلغ من العمر 17 عاماً يروي لنا في عيد الأم ذكرى اعتقال والدته "حليمة عباس"، ويحدثنا عن تشرد عائلته بعد غياب الأم، يقول: "كانت أمي خياطة نعيش في بيت صغير أنا وأختي بعد وفاة أبي بداية الثورة، كانت تحب مساعدة الناس، لذلك كانت تعمل على نقل المواد الإغاثية الى الأسر المحاصرة في مخيم اليرموك، كنا من سكان حي التضامن، كنت أحذرها من أن تقع بين أيدي الأمن، وكانت تحدثني عن مساعدة الناس وضرورتها".

يكمل راتب: عام 2013 كانت أمي تدخل وتخرج إلى المخيم أكثر من عشر مرات في اليوم الواحد، وفي آخر مرة نقلت أمي فيها مبلغ مالياً، اعتقل من كانت ذاهبة إليه، فاعتقلوها بعده. بقينا أنا وأختي ميادة الصغيرة وحدها، لم أكن حينها تجاوزت 15 عاما وميادة 8 سنوات، ولا أعرف ماذا أفعل.

يردف: ذهبنا للعيش عند خالتي بعد اعتقال أمي، لكنهم اعتقلوها هي الأخرى بعد شهر من اعتقال أمي، أصبحنا وحيدين أنا وأختي مجدداً، ولم أعرف ماذا أفعل بميادة الصغيرة ولا كيف أكون مسؤولا عنها، لذلك أعدتها إلى الميتم حيث كانت تضعها أمي أثناء عملها في الإغاثة، وبدأت العمل. كنتُ حينها في آخر امتحان لي في المرحلة الاعدادية، لم أدخل الامتحان ولم أتابع دراسي.

بعد حوالي شهرين، كنت قد تجولت فيها بين بيوت عدة لأقاربي، وصلت أمي الى سجن عدرا وقيل لي أنني أستطيع زيارتها، ذهبت مع خالي إلى هناك، داومت على زيارتها وحدي، ومرة واحدة تمكنتُ من إحضار ميادة لزيارتها.

لم نكن نملك المال لتوكيل محام لأمي ولا أعرف كيف أعيد أختي إلي وأتكفل بمصروفها، لقد تشردت أسرتنا بغياب أمي.

تفرق العائلة من جديد، خالي قرر السفر إلى لبنان خوفاً من "الاحتياط"، فبقيت وحدي مجدداً، أنا لي أخوة من أبي لكنهم لا يعيشون في دمشق. جاء أخي الكبير وأخذني إلى حلب ثم هاجرنا إلى تركيا خوفاً من الخدمة الإلزامية، هكذا تركتُ أمي وأختي ورحلت.

أم أعيد اعتقالها لأنها رفضت الابتعاد عن أولادها

"نورا طوقاني" أم صغيرة قضت السنوات الأخيرة من عمرها في سجون النظام، بتهمة أنها زوجة شهيد وبحجة أنها كانت تنقل الذخيرة للمسلحين في "حمص" في عربة طفلها الصغير.

اعتقلت نورا في أوائل سنة 2012 في حمص حين قام والدها بإيصالها إلى فرع الأمن بعد أن داهم الأخير المنزل بحثا عنها. وبعد فنون عذاب تلقتها هي وأختها الصغيرة التي اعتقلت معها، تم تحويلها إلى فرع الأمن العسكري "2015" في دمشق، ووصلت أخيرا إلى "سجن عدرا" المركزي تحت قضاء ما يسمى المحكمة العسكرية.

"نورا" أم لطفلين صغيرين لم يتجاوزا السنتين، لم يكن أحد يزورها، وبعد أشهر طويلة زارتها أختها وزوجها ليعلماها أن الولدين اختفيا مع بيت جدهما "أهل زوجها". كانت نورا مشوهة القدم من شدة التعذيب الذي تلقته في حمص، فأصبحت مشوهة القلب أيضا بعد أن تبرأ منها والدها ورفض زيارتها واختفاء أبنائها.

بقيت نورا لأكثر من سنتين معتقلة بلا محكمة تنظر في أمرها ولا قضاء عادل ينصفها ولا نهاية معروفة لمصيرها، قال لها ملازم في سجن عدرا مرة أن ملفها مكتوب عليه "إعدام". ورغم سن نورا الصغير فقد عانت الكثير من الأمراض هناك في سجنها فقد أصيبت بالسكري والضغط.

خرجت نورا وأختها ضمن صفقة للتبادل أجراها النظام مع المعارضة، في مفاجئة لم تكن لتتوقعها أبدا، وهي المحكومة بالإعدام لسبب تجهله تماما، ذهبت نورا إلى حمص باحثة عن ولديها الصغيرين.

أما أختها آيات فقد خرجت من سجنها لتهرب من البلاد كلها خشية بطش النظام بها مجدداً. بقيت نورا في حمص تبحث عن طفليها إلى أن وجدتهما أخيرا في حي من أحياء النظام يسمى بحي "الحمراء".

لكن أهل زوجها رفضوا إعطائها الولدين، فهي المعتقلة التي خرجت من السجن وتحمل عاره فوق كتفيها، وقد استمر والدها في تخليه عنها أيضاً خاصة وقد توفيت أمها وتزوج الأب بغيرها.

اضطرت نورا إلى السكن لدى عجوز في الحي، وعملت هناك في خدمة البيوت كي تعيش وتؤمن أدوية أمراضها التي تكاثرت على جسدها الصغير، كانت ترى ولديها خلسة وتحتضنهما خفية وترفض الخروج من حمص النظام بعيدا عنهما.

وبعد مدة لا تتجاوز الأشهر الستة من خروجها، عاد الأمن واعتقلها مجدداً، بذات التهم التي كانت منسوبة إليها، وبدأت رحلة عذاب جديدة من فرع الأمن العسكري في حمص إلى دمشق إلى فرع فلسطين، حيث وصلت الأخبار الى أهلها أنها ربما تكون قد توفيت هناك.

لكنها ظهرت مجدداً في سجن عدرا أم خائبة وحيدة مريضة بسبب التعذيب في الأفرع الأمنية مجدداً، وعادت ممنوعة من الزيارة لأنها تتبع للقضاء الميداني العسكري مجدداً.