أخبار الآن | عامودا – سوريا (بهزاد حمو)
"مهما حدث، تبقى جبال شنكَال في ظهرنا". هكذا كان إيزيديو سوريا يواسون بعضهم البعض، بينما يحيط بهم ثلاثة وسبعون "فرماناً". والمفردة الأخيرة يستخدمها "الإيزيديون" للدلالة على المجازر والحملات العسكرية التي لاحقتهم وفي حقب تاريخية متتالية، من منفىً جماعي إلى آخر، على خلفية معتقدهم الديني.
أوائل آب/ أغسطس 2014، سيطر داعش على جبال شنكَال "سنجار العراقية" ليؤرِّخ بذلك لـ "الفرمان رقم 74". كانت تلك الحملة "الفرمان الأقسى"؛ حيث سلبت من إيزيديي العالم، والجزيرة في سوريا على وجه الخصوص، جبلاً/ رمزاً يرنون إليه، وسنداً يتكئون عليه، في أرضهم القلقة.
شيئاً فشيئاً، وعلى وقع القصص المرعبة التي تناقلها العالم عن السلب والخطف والاغتصاب الجماعي والقتل، بحق أبناء الديانة الإيزيدية في العراق، شعر إزيديو الجزيرة بأنهم باتوا مكشوفي الظهر تماماً.
"كريف" القريب الذي لا يأكل من طعامه أحد
نتيجةً للمجازر والحملات المتتالية التي لاحقت الإيزيديين عبر التاريخ، زادت هذه الديانة غير التبشيرية، من الأسوار حولها، وبالغت في انغلاقها. هذه الأسوار "تحوّلت مع الأيام إلى سجن يحيط بـ إيزيديي سوريا". وبعد استقرار الأخير في القرى الممتدة "جنوب خط الحديد" الحدود الحالية بين تركيا وسوريا، في محيط كردي مسلم، يشتركون معه في اللغة، ويختلفون معه في الدين، لجأ الإيزيديون إلى خلق نمط من العلاقة الاجتماعية مع العشائر الكردية والعربية المحيطة، أطلقوا على العلاقة اسم "كريف"
والكريف هو الشخص الذي يوضع طفل إيزيدي في حجره أثناء ختانه، بعد مشاورات وتوافقات عائلية شاقة، على اعتبار أن هذه العملية، ستجعل من الشخص "الغريب" وعائلته، قريباً بالدم من العائلة الإيزيدية، والعكس. إلا أن هذه العلاقة "لم تنجح في تجاوز حدود العائلات التي ترتبط بها".
"جردو" سبعيني إيزيدي، يتذكّر جيّداً كيف كان الكثير من أصحاب المحلات في مدينة عامودا، البعيدة عنهم أقل من 10 كيلومترات، يرفضون شراء منتجاته، "هذا لبنٌ إيزيدي حرام، ذاك بيضٌ إيزيدي مدنّس" ويقول جردو، إن البعض منهم كان "يضرب على الوتر الحساس"، كناية عن كيلهم الشتائم للشيطان، لاعتقادٍ شائعٍ ومغلوط، عن عبادتهم له، وهو أمر يزعج الإيزيديين كثيراً، الذين لم يدخروا بدورهم جهداً في لفِّ معتقداتهم بالغموض أكثر.
وكثيراً ما تعرَّضَ "كريف" عائلة كردية للإحراج، بعد أن ترفض الأخيرة، لحماً إيزدياً ذبحه الكريف بيده، بدعوى التحريم الديني.
فشل الحركة التقليدية و"نجاح" قديمٌ حديثٌ آخر
هذه العلاقة المجتمعية المضطربة بين الإيزيديين ومحيطهم المسلم، وعلى الرغم من أنها لم تؤدّ يوماً إلى اقتتال أهلي مسلّح، ساهمت في سدّ الأبواب أمام اختراق البيت الإيزيدي من قبل الحركة السياسية الكردية، على الرغم من الإيزيديين كانوا ولاعتبارات عدّة ضحايا السلطات المتعاقبة، وصولاً لحكم نظام الأسد.
يروي الصحفي "جابر جندو" فصولاً من الزيارات التي كانت تنظمها الأحزاب الكردية المختلفة إلى القرى الإيزيدية "بهدف تسييسه"، ويصف النتيجة بـ "لا شيء تقريباً"؛ على الرغم من أن شخصيات إيزيدية بارزة، تنشط في الحركة السياسية الكردية إلى اليوم.
منذ أواخر الثمانينات بدأ حزب العمال الكردستاني PKK، يخطف الأضواء، وينشط في الوسط الإيزيدي، مخاطباً فيهم "هويّة كردية أصيلة، تتجاوز الذهنية الكردية المسلمة"، كما يقول جابر، وإلى هذا الخطاب السياسي "الجديد"، يُرجع نشاط "الإدارة الذاتية" حالياً، في وسطهم.
في قرية "قزال جوخ" الإيزيدية، التابعة لمدينة عامودا، مقر "بيت الإيزيديين –Mala Ezdiyan" والذي يعتبر تطويراً لفكرة كانت مجموعة من شخصيات القرية ومحيطها قد حاولت تفعيلها منذ 2012، تحت اسم "جمعية شمس"، لإحياء الثقافة الإيزيدية وخلق مرجعية اجتماعية. إلا أن الجمعية ظلّت معطّلة تقريباً على الرغم من تشكيلها لجاناً تنفيذية متعددة، كلجان الثقافة، الشباب، الصلح والمرأة وغيرها.
تمكنت الإدارة الذاتية من إعادة تفعيل عمل هذه اللجان، بعد أن أعادت هيكلة ما تبقى من الجمعية وغيّرتْ اسمها إلى "بيت الإيزيديين" على غرار "دور الشعب" التي شكّلها في عموم مناطق سيطرته. لاحقاً، وعقب إعلان الإدارة الذاتية، اتضح دَور بيت الإيزيديين أكثر، من خلال تمثيلهم في مجالس وهيئات الإدارة، بنسبة 5% المخصصة "للأقليات الدينية والعرقية في مقاطعة الجزيرة."(محافظة الحسكة) وفق توصيف "الإدارة الذاتية".
السياسي الإيزيدي "بديع معمو" لا يرى بأن المجتمع الإيزيدي كان مجتمعاً سياسياً، "ولم ينتج يوماً نخبة سياسية فاعلة". هذا الحكم ينسحب بحسب معمو على الفترة الحالية، والتي تُعتبر "فريدة" من حيث انخراط الكثير ممن تبقى من الإيزيديين في حراك حزب الاتحاد الديمقراطي، عبر الإدارة الذاتية بمجالسها وهيئاتها وتفريعاتها الكثيرة. ودون أن يخفي دور الأفرع الأمنية في تخويف الإيزديين من محيطهم المسلم عموماً، يلقي معمو بـ "اللوم" على الحركة الكردية التقليدية، في "نفور الإيزيديين منهم، ومن الشأن العالم تالياً"، وهذا ما مهّد الأرضية، برأيه، "لعودة حزب العمال الكردستاني إلى الوسط الإيزيدي، عن طريق الإدارة الذاتية هذه المرة".
ناضل "معمو" كما يقول من أجل إقناع المجلس الوطني الكردي بتمثيل الإيزيديين في المجلس والمرجعية السياسية الكردية، والاعتراف بهم كمكون ديني متمايز، "لكن، لم يستجيب لنا أحد، في الوقت الذي عرف فيه حزب العمال الكردستاني قراءة الشخصية الإيزيدية مجدداً وفهمها بشكل أفضل".
مقبرة "آف كَيرا" وشبح "فرمان الاندثار"
التقينا السبعيني "جردو" في أرضه بقرية قزال جوخ، كان اللقاء خاطفاً وكثيفاً في ذات الوقت، بدأه جردو بالتحسّر على مصير الإيزيديين في محيطٍ "لم يكن يتركهم وشأنهم"، وأنهاهُ بذمِّ "الأيزيديين الذين تركوا أرضهم وهاجروا إلى أوربا".
بدأت الهجرة الإيزيدية من الجزيرة السورية ومناطق انتشارهم في أرياف حلب وعفرين، تدخل طوراً متعاظماً بداية تسعينيات القرن المنصرم، مع "الدعوات الصريحة" التي كانت تقدمها السفارات الألمانية لاستقبال المهاجرين الإيزيديين "وخصِّهم بامتيازات قانونية، مثل التجنيس ومنح الإقامات الدائمة لهم في فترات زمنية قصيرة جداً".
يحتار "جردو" اليوم بما يحلف! تلة قرية "آف كَيرا" كانت القَسَم الذي "لا يأتي الباطل من بعده"، تحوّلتْ اليوم إلى مرعى لأغنام البدو الرحل والقرى المجاورة، بعد أن ترك القرية أهلها الإيزيديون. فبعد عام تقريباً على اندلاع الثورة السورية، بدأت الهجرة تقتلع العوائل الإيزيدية برمتها، بعد أن كانت مقتصرة في صفتها العامة على الشباب واليافعين منهم.
في مدينة "هيلدسهايم" الألمانية وحدها، حيث يقيم السياسي بديع معمو، تقيم 200 عائلة إيزيدية وفق أقل تقديرات السيد معمو، الذي يحذر بخوفٍ من شبح الكارثة الأخيرة المحدقة بالوجود الأيزيدي عموماً. حيث لا يخفي الرجل ابتعاد الجيل الأيزيدي الأخير عن هويته الدينية القومية، "وانحلاله التام في المجتمع الأوربي".
لا أرقام أو نِسبَ رسمية كالعادة، توثّق لهجرة الإيزيديين، ولا لأعداهم في سوريا. الصحفي "جابر جندو" يقول بأن عددهم في محافظة الحسكة وحدها، كان يقارب المائة ألف، قبيل الثورة السورية، يتوزعون على خمسين قرية. فيما تقول وثائق فرنسية تعود إلى عام 1932 إن عدد الأسر الإيزيدية في ريف حلب كان يصل إلى 677 أسرة، ويقدّر السيد معمو نسبة الهجرة الحالية بـ 80%.
يحصي "جردو" القرى الإيزيدية، على الخط الواصل بين عامودا وشمال مدينة الحسكة، يقول بانفعال: "قرية "طولكو" كان فيها 70 منزلاً، اليوم هي فارغة تماماً، كذلك قرية برزان، من 100 منزل بقي اثنان فقط!".
يغادرنا جردو العجوز، إذ لا غفران في حديثه العاصف في انتقاد الهجرة الإيزيدية الجماعية، ولا يجدُ في الطريق الترابية حيث ابتعد عنا، سوى سيارة عسكرية للوحدات الكردية، يلقي عليها جردو السلام بوقار، ويبتعد ..