أخبار الآن | الرقة – سوريا (عزام الحاج)
تصعب اليوم صياغة توصيف تفصيلي، ولا حتى تقدير أولي، لحجم وطبيعة التغيرات الجوهرية والنهائية التي عصفت بالمجتمع السوري عامة، والمجتمع المحلي في الرقة خاصة، منذ آذار 2011. لكن يمكن البدء بتسجيل تبدلات عنيفة وكبيرة وأساسية، وأخرى هادئة وصغيرة وثانوية أو تابعة: تغيرات ملموسة طرأت على أفراد أو جماعات أو فئات عمرية أو نوعية أو مهنية أو طبقية.
تغير في بنية بعض المهن
من التغيرات الكبيرة التي طرأت على مجتمع الرقة المحلي هو حركة النزوح الهائلة لأبناء الرقة منها، وتُشير التقديرات إلى أن 60% من سكان الرقة المدينة نزحوا منها، سواء إلى محافظات سورية أخرى أو إلى دول الجوار، تركيا بالدرجة الأولى، في مقابل حركة وفود تكاد تساويها حجماً لمقاتلين مهاجرين من جنسيات وقوميات شتى هم عناصر تنظيم داعش الإرهابي الاستيطاني. هذا التغير السكاني الكبير ينعكس دون شك على مفاصل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية وتفاصيلها المعاشة اليومية.
لكن ضمن ثنايا هذا التحول الكبير تحدث تغيرات ملموسة نجدها واضحة في اندثار بعض الأنشطة أو المهن والحرف وظهور أخرى. وهذه أبرز ما يصيب الحياة الاجتماعية اليومية من أوجه التبدل وأكثرها ظهوراً وعيانيةً.
مهنة التعليم
"مهنة التعليم" هي واحدة من أكثر المهن انتشاراً في المجتمع الحديث اجمالاً، لكنها، في المقابل أشد المهن إثارة لتحسس وقلق السياسيين وخاصة في الأنظمة القمعية والطغيانية. لذلك عمد تنظيم داعش إلى هندسة التعليم وفق برنامجه الخاص في مناطق سيطرته. لم يتوقف الأمر عند حدود الفصل بين الجنسين مكانياً، وفرض مناهج جديدة تعكس رؤيته الخاصة، بل وصل إلى حد إلغاء مواد من المنهاج الدراسي بشكل نهائي. تركز المنع أساساً على المواد الاجتماعية والعلوم الإنسانية. فلا علم اجتماع ولا فلسفة ولا علم نفس في مدارس الرقة اليوم في ظل هيمنة داعش.
يقول "أبو إبراهيم"، وهو مدرس سابق لمادة الفلسفة في ثانويات الرقة: "مشكلة داعش مع الفلسفة هي مشكلة كل الأنظمة الدينية مع الفلسفة واستطراداً مع العقل. العراك التاريخي بين الفلسفة والدين لم يُحل أو يُسوى في ثقافتنا؛ ويبدو أن الظروف الحالية أعطته مزيداً من الدفع ومدت بعمره لأجيال قادمة سترى في العقل والنقل ضدين لا يمكن التوفيق بينهما". ويشرح "نعم لقد تضررت بالمعنى الشخصي من هذا المنع، لكني متضرر بالمعنى الشخصي منذ صيف العام 2011 عندما تم وقفي عن العمل من قبل النظام. لكن مصيبتنا اليوم مع داعش أكبر من أي ضرر فردي لحق بالبعض منا".
ومهنة القضاء والمحاماة
لكن ليست الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية وحيدة في مواجهة العقلية الداعشية السلفية المغلقة، بل كل العلوم العقلية ذات الصلة بالدولة الحديثة وبالحداثة وبفصل السلطات وتعدد المرجعيات والقيم ومركزية الإنسان. فالميدان الحقوقي والقانوني بالكامل ملغى من المجتمع الداعشي. إذ كف القضاة عن كونهم قضاة وكف المحامون عن كونهم محامين، ذلك أن التنظيمات ذات المرجعية السلفية ترى أن المدونات القانونية الحديثة مدونات وضعية، أي وضعها البشر. وبالتالي فهي قوانين وتشريعات "كافرة وصليبية"، كما يوضح المحامي "محمود الهادي". ويعتبر تنظيم داعش وأمثاله من التنظيمات أن "التحاكم بهذه القوانين كفر"، بعبارة المحامي "محمد شلاش" الذي قال أن المحامين هم: "أكثر شريحة تضررت في الرقة، فالقضاة يقبضون رواتب حالهم حال بقية الموظفين، ولهذا فقد توجّه المحامون للعمل في القطاع الخاص، مثل التجارة أو افتتاح بقاليات، بينما هاجر بعض آخر".
ويؤكد المحامي "محمود الهادي" في السياق ذاته ما لحقه من "ضرر شخصي من خلال منعي من مزاولة المهنة وهي مصدر دخلي"، كما يشير إلى ما يلحق المجتمع عامة من هذا المنع والنتائج الاجتماعية على الناس.
في مقابل المنع الذي فرضه تنظيم داعش على مزاولة هذه المهن والأنشطة، ظهرت في مناطق سيطرته، ومنها الرقة، أنشطة ومهن أخرى. مهن وأنشطة تنبع من صلب مشروع داعش ورؤيته، لكن لهذه قصة أخرى.