أخبار الآن | الرقة – سوريا – (أحمد ابراهيم)

كلنا يعرفه، نحن مجموعة من الشباب المتعلمين وشباب القرية الآخرين كذلك. فقد كان معنا في المدرسة ولكنه لم ينجح بإتمام دراسته الثانوية بسبب تعلقه بالفتيات والمشروبات الروحية. وهكذا منعنا أهلنا من التحدث مع "شعبان" وهو اسمه، بسبب سوء سمعته بشكل كبير من الناحية الأخلاقية.

مسارات مختلفة

تابعت مجموعتنا الدراسة الجامعية، وتفرقت بنا السبل بعد تخرّجنا، فمنا من هاجر وأنا منهم، ومنا من عمل في الزراعة لعدم توافر الوظائف، ومنا من فتح "بسطة" خضار أو أخذ يبيع المازوت والبنزين بعد أن يصفي النفط الخام بحرّاق يدوي على الرصيف، وهكذا هو الحال لأغلب الخريجين الجامعيين في البلد ومدينتنا الرقة.

أصبحت مهندسا معماريا وأتاني عقد عمل في دولة قطر، ومنذ بداية الثورة لم أعد إلى زيارة قريتي "المنصورة" في ريف الرقة كما كانت عادتي في الإجازات الصيفية. ولأن أهلي لا زالوا هناك، فقد قررت الذهاب وإجبارهم على الخروج بعد فشل محاولاتي إقناعهم.

شيخ داعش؟!

في إجازتي الصيفية صيف 2015 بعد شهر رمضان، وبعد غياب أكثر من أربع سنوات، وفي أول يوم جمعة من الإجازة وكعادتنا ككل جمعة قصدنا مسجد قريتنا الذي بناه أحد أبناء القرية المغتربين في السعودية "ويقال أنه جمع له مالا كثيرا".

عند دخولنا المسجد كانت المفاجأة، "شعبان" هو إمام وخطيب المسجد. لم أقتنع وكذلك مجموعتنا، المغتربة التي بقيت على صداقتها، بما نرى. كان يحاول أن يُبدي الورع والتقوى بجلابيته البيضاء وحطة الرأس دون عقال والبقعة السوداء على جبينه. كان أمردا لا تنبت له لحية، كتمت ضحكتي احتراما للمسجد وأنا أنظر إليه، وكانت عيناه تتوسلان لي بأن أصمت.

بدأ خطبته على منبر منخفض أثار لدي تساؤلا آخر أضيف إلى عشرات التساؤلات حول تغييرات كثيرة أراها هنا وأضمرتها في نفسي لأستفسر لاحقا عنها. كان جلّ كلامه عن الحث على الجهاد والالتزام والمبايعة والتقرّب من داعش وعناصره،  والتبرع بالمال وحتى بتزويجهم وخصوصا المهاجرين منهم. لا أدري كيف انتهت الصلاة ولكنني قررت إعادتها في البيت إذ لم أفلح بالتركيز طوال الوقت وأنا أفكر بشعبان وإمامته للمسجد.

من ملاحقة الفتيات إلى المشيخة

بعد أن سألت عن "شعبان" الذي حيرني انتقاله إلى هذه الحال، علمت بأنه التحق بإحدى المدارس الدينية على كبر بعد قصة حب فاشلة، وهذه المدارس لا تشترط القبول فيها مستوى دراسي معين، ومن يومها انقطعت أخباره عني. وها هو بعد فرقة سنين إمام وخطيب لمسجد القرية. حاولت الاختلاء به بعد الصلاة ولكنه زاغ مني وانشغل ببدء دورة شرعية لأهالي القرية كان داعش على ما أفهمني والدي قد فرضها على الجميع ممن هم في سن التكليف.

انشغلت عن التفكير بشعبان بعد قدوم الكثير من الزوار لرؤيتي من الأقارب والأصدقاء، وفي نهاية السهرة وأنا أودع آخر ضيوفي بعد منتصف الليل بقليل جاء شعبان.

بادرني بالقول: "تقصدت أن آتي متأخرا، فأنا أعرف لسانك وطوله، بدك تفضحني أمام الناس" فمازحته: " له له ليش طيب، أنت إمام مسجدنا".

لم يقبل أن نجلس في أرض "الحوش" وأصر على الغرفة، وقال دون سابق إنذار: "خيو والله هذول (…) من خليفتهم للـ(…) الشرعي اللي جابوه هون، بس إيش بدي أساوي أسهل تجارة وأهون تجارة هنا هي الدين".

تكلم كثيرا عن قصص أغرب من الخيال، انتهت السهرة عند طلوع الفجر عندما ذهب ليؤذن وليسجل في سجل المسجد الغائبين عن صلاة الصبح، وكوني صديقه وضيف وخوفا من سلاطة لساني قرر أن يرشوني بكتابة اسمي بين الحضور ولكنني فضلت مرافقته لأصلي أولا ولأعرف ماهية ما يحدث حقيقة.

عقوبات جماعية للأهالي

في الطريق إلى المسجد حدثني أنهم سدوا المحراب في كل الجوامع بحجة أن ذلك يشابه مساجد الشيعة وهدموا درجات المنبر لأن الرسول كان يخطب على جذع شجرة وغيروا الترتيب بالتشهد والصلاة الابراهيمية وحرموا الدعاء بصلاة الفجر ومنعوا الإطالة أو التفخيم بالآذان وعدم المساس باللحية بالطول أو العرض وحفّ الشوارب.

وصلنا فأمسك بسجل على باب المسجد من الداخل ووضع بعض الإشارات بعد أن استعرض الموجودين قبلنا، وبعد أن أنهينا الصلاة أمسك بالسجل مرة أخرى ووضع إشارات للغياب والحضور ورافقني مرة أخرى إلى البيت بعد أن دعى لبيتي الشرعي الكردي العراقي "أبو المصطفى" الذي فرزه داعش لقريتنا بعد فشل أغلب أهالي القرية في تجاوز الدورة الشرعية الأولى "هنا كان الحديث والمصطلحات ضمن المواصفات القياسية لداعش كما همس في أذني شعبان".

أكرمت وفادتهم بإفطار معتبر ولكن كان ينقصه الخبز الذي أحضره شعبان من بيته، وسبب نقص الخبز هو معاقبة أهالي القرية من قبل داعش بقطعه عنهم وكذلك الكهرباء لمدة ثلاثة أيام لعدم نجاحهم في الدورة الشرعية التي أتى "أبو المصطفى"  الأكثر تشددا لإعادتها لهم.

وهنا عرفت أن مدة الدورة 15 يوما وعلى فوجين، بين صلاة الظهر والعصر فوج ومن صلاة المغرب للعشاء الفوج الثاني، وعرفت أيضا أن سبب ابتلاء الامة وانحطاطها هو عدم نجاح أغلب أهالي قريتي بالدورة الشرعية بل وتدخينهم للسجائر أيضا والعياذ بالله.

كان مقياس النجاح بالدورة الشرعية هو عدد الملتحقين، وكون عدد الملتحقين بالدورة الأول كان قليلا أتوا بالسجل الذي رأيت شعبان يسجل فيه كل الذكور من سن التكليف الى أكبر كهل في القرية. بعد هذه الدورة حتى الحواجز لا تستطيع المرور منها إلا إذا كان عندك ورقة تثبت أنك أنهيت بنجاح الدورة الشرعية، ولكن الحقيقة من هذه الدورات كما أسرّ لي شعبان هي إغراء الشباب للالتحاق بصفوف داعش.

بقيت في القرية لمدة شهرين محتجزا بسبب إغلاق المعابر التركية، لكني دخلت قبل أسبوع تقريبا وكان موعد سفره إلى قطر يوم الأحد الساعة الواحدة ليلا من مطار أنقرة.