أخبار الآن | عنتاب – تركيا (ميساء الحمادي)
لم أكن أعرف ما هو الاحتفال الذي دعتني إليه المعلمة التركية في مدرسة ابني هنا في غازي عنتاب، ولكنني لم أرفض الدعوة خصوصا مع الحميمية الواضحة التي تبديها تجاهي وتجاه الأطفال السوريين في الروضة التركية التي يدرس فيها ابني.
ذهبنا سويا إلى مركز بلدية غازي عنتاب، وكنت أعتقد أنه ربما مهرجان لأهالي الأطفال، لكني ذهلت حين علمت وأنا داخل القاعة الضخمة أن الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" هو من سيكون متواجداً لافتتاح مراكز تعليمية جديدة في المدينة. وهكذا فقد أكملت الحفل وكلمة الرئيس وزوجته بهذه المناسبة في الوقت الذي كان فيه الازدحام كبيرا خارج المكان من المواطنين الأتراك الذي عجزوا عن الدخول.
اليوم، وبعد أكثر من ثلاث سنوات على تواجد السوريين في تركيا، بات واضحاً تلمّس ذلك الاندماج النسبي الذي حققه الكثيرون من السوريين هنا. وتختلف درجة ذلك الاندماج والتعايش باختلاف المدن التركية من جهة واختلاف درجة التمازج مع الحاضن الاجتماعي والثقافي التركي المحيط.
تعايش في التعليم
رغم وجود بعض الفئات من الشعب التركي التي تتخذ موقف الحياد وتفضّل عدم التعامل مع السوريين، لانتماءات سياسية أو طبقية ربما، فإن المزاج العام هو إيجابي بشكل واضح. فقد أصبح التواجد السوري أمرا لا مفر منه وعليهم بالتالي التعايش معه.
التركية "زاهدة أوراك"، وهي مدرسة في إحدى التجمعات التعليمية المنتشرة في مدينة غازي عنتاب وتابعة لبلديتها، تتحدث لأخبار الآن وتقول: "إنني متعاطفة جداً مع الشعب السوري، ولم أجد مشكلة معهم منذ البداية، ولهذا خصصت من وقتي هنا ساعتين متطوعة لتدريس اللغة التركية للنساء بطريقة بسيطة وسهلة تمكّنهم من تسيير أمورهم في المشافي والأسواق ومحلات البقالة".
وتتابع: "لكن رغم هذا لا أجد الإقبال اللذي توقعته منهم، ولا أفهم السبب فهم بحاجة لتعلم اللغة بشكل ضروري، فإقامتهم هنا بحسب رأيي الشخصي طويلة وبلدهم ذاهب إلى حرب قد تطول سنوات، ويجب عليهم أن يدركوا هذا حتى تصبح إقامتهم هنا مريحة لهم ولمحيطهم من الأتراك الذين يتعاملون معهم".
أما "خديجة" فهي مدرسة في إحدى مدارس تركيا الرسمية، فقد كان لها رأيها الخاص تقول: "إنني مستغربة لماذا يصر السوريين على تشييد مدارس خاصة بهم، فهم بعملهم هذا يقومون بتعزيز الحاجز القائم على فصل الشعبين، فلا يوجد في بلادهم حل يلوح في الأفق لا من قريب ولا من بعيد وعليهم الاندماج مع الشعب التركي في المدارس أو حتى في السكن لملاحظتي وجود أبنية كاملة خاصة بهم. وعندما يقومون بتدريس أطفالهم في المدارس الرسمية هنا سنخلق مع الوقت جيل متفاهم قادر على نبذ الخلافات اللتي تروج لها الصحف هذه الأيام".
وفي العمل
أما "مولتو بولنت" وهو صاحب شركة إنشاءات في غازي عنتاب قال أنه في البداية رفض أن يعمل معه شباب سوريين لأنه يخاف الغرباء وحاجز اللغة سيجعل هذا التعامل أصعب، ولكن: "مع الوقت عندما رأيت الشركات الأخرى قد أقدمت على هذه الخطوة وأضافت إلى عمالها العمالة السورية ويمدحون في عملهم المتقن، عمدت حينها لتشغيل شاب سوري واحد لأكتشف بنفسي هذه المهارة وتشجعت لزيادة العدد وخاصة لاحظت حفظهم السريع لأسماء الأشياء المستخدمة في العمل وسرعتهم بتعلم التركية فأصبح التعامل معهم مع الوقت أسهل".
"ماتين" صاحب محل للخياطة في منطقة "بينفلر" في عنتاب، ما إن تدخل إلى محلّه حتى تسمع الأغاني العربية الشبابية لتامر حسني ونانسي عجرم وأليسا، أسأله عن سبب ذلك يقول: "الأغاني العربية والموسيقى جميلة وأتعلم الكثير من الكلمات العربية فزبائني السوريين كثر". أخرج من محله بعد أن أصرّ على تعلم بضع كلمات عربية تفيده في عمله.
أما الصيدلاني "ايمري" فقد قام بتشغيل صبيا سوريا يجيد اللغة التركية لتلبية حاجة المريض السوري من الأدوية بشكل يوفر عليه صعوبة طلب الدواء وشرح بعض الأعراض المفاجئة التي تصيبه.
السوريون يندمجون
وعندما سألنا السوريون أنفسهم إن لمسوا فرقا بالتعامل بعد مدة وجودهم تقول"ديمة": "لم أعد أرى هذه النظرة منهم على أني غريبة، بالعكس بعدما عرفوا أني أتقن التركية بدأوا بالتودد إلي وإخباري بأننا طيبون وشعب قد ظلم كثيرا في هذه الحرب، وحتى أنهم أصبحوا يدعونني لمنزلهم كل جمعة لأقرأ القرآن لهم باللغة العربية لرغبة الجدّة بأن يسمع الأطفال القرآن باللغة واللفظ الصحيح".
أما "لبنى" فقد تفاجأت في إحدى الصباحات من تجمّع الجيران أمام منزلها يطلبون محادثتها، تقول: "خفت صراحة، توقعت أن تصرفات غير مرغوبة قد بدرت مني، لكن سبب مجيئهم كان لتقديم الشكر لي لأنني أقوم بإطعام القطط والعصافير كل صباح قبل ذهابي للعمل، وبأننا جميعا من ثقافة دينية إنسانية واحدة".
قصص كثيرة لا تنتهي إن أردنا سماعها من الجميع، ولكن من الواضح أن الشعبين أصبحوا أكثر انسجاما وقدرة على التعايش، ونلاحظ رغبة الأتراك هنا بتشغيل أغلب المحال التجارية فتى سوري يتقن اللغتين معا، وما هذا إلا رغبة منهم في تلبية احتياجات السوريين وسهولة بيع منتجاتهم بكميات أكبر .
وأيضا هذا ما نلاحظه في القرارات الحكومية الجديدة اللتي تعمل على تسهيل معاملات السوريين وجعلها أكثر تنظيما ودمجها أحيانا في معاملات الأتراك وما هذه الخطوات المتخذة إلا سبيلا أخر لتعايش الشعبين وإختفاء هذه الخلافات مع الوقت.
يمكن القول، بكل الأحوال، أن هناك درجة عالية حققها السوريون في طريق علاقتهم مع الأتراك؛ ساعدهم في ذلك تقبّل المحيط لهم والتعاطف والمؤازرة مع قضيتهم العادلة. ويعود ذلك بحسب الكثير من آراء الأتراك، إلى التشابه الكبير في البعد الثقافي والاجتماعي والديني بين الشعبين، وإلى تلك العلاقة التاريخية الطويلة من الجوار.