أخبار الآن | ريف إدلب – سوريا (هاديا المنصور)
من زاوية داخل منزلها المهدم أخذت الطفلة روعة 11 عاما تراجع ما جرى عندما سقطت إحدى البراميل المتفجرة فوق المبنى الذي تسكنه مع عائلتها في الطابق الثالث. روعة واحدة من أطفال كثر شاءت الأقدار أن يكونوا شاهدين على المجازر المروعة التي تحدث في سوريا والأكثر من ذلك كله رؤيتهم لأهاليهم مستشهدين تحت الأنقاض، مع انتظار مصيرهم وماذا سيحل بهم أنفسهم.
جيل من الرعب
تقول روعة: "لا يزال صوت الانفجار ومشهد الدمار لا يبارح مخيلتي وكأنه يتكرر في كل لحظة (تجهش روعة بالبكاء) لقد فقدت أمي وأخوتي الثلاثة ولم يبق أحد من عائلتي على قيد الحياة سوى والدي الذي لم يكن في المنزل آنذاك".
أبو أحمد 40 عاما والد روعة يتحدث متأثرا بوضع ابنته بأنها دائما منزوية، قليلة الكلام، تتكرر أمامها تلك اللحظات المؤلمة عندما قام الدفاع المدني باستخراج أمها وإخوتها من بين أكوام الحجارة. يحاول الأب أن يخرجها مما هي فيه بإرسالها إلى المدرسة ولكنها ترفض الذهاب.
حول وضع روعة يتحدث الأستاذ محمد العوض المجاز في علم النفس أن الحل لهذه الحالة هو إعادة بناء هيكلة البنية النفسية، إعادة إضاءة بقعة من الضوء على مستقبلها، يجب أن تخضع لعدة جلسات مع طبيب نفسي. وينوه العوض إلى أنه: "يجب أن يكون هناك تعاون مع الأسرة من خلال برنامج يحتوي على أنشطة يشارك فيه أيضا معلميها في المدرسة".
وهنا يدعو إلى التخلي عن أساليب التعليم التلقيني أو التقليدي، فنحن بحاجة إلى ثورة في مجال التعليم تتناسب مع نفسية الأطفال في الوقت الراهن، على حد قوله.
تركت ظروف الحرب الطاحنة آثارها السلبية على نفسية الأطفال، فغياب البيئة الآمنة حرمتهم من أبسط حقوقهم في اللعب والتعليم، كما حرمتهم من أن يعيشوا طفولتهم والانتقال الفوري لمرحلة الراشدين مما كان له انعكاسات على سلوكهم وعلى طباعهم وعلى علاقاتهم الاجتماعية مع بعضهم ومع الآخرين.
حول هذا الموضوع تتحدث المدرسة رنا 28 عاما، التي تعمل في مركز "سنافر" التعليمي الترفيهي في كفرنبل: "في إحدى المرات كنت ألاعب الأطفال ضمن نشاط موسيقي، فجأة اقترب مني طفل عمره ثماني سنوات ليقول لي: أنا لا أحبك يا آنسة ولا أحب النشاط. وعند سؤالي له عن السبب قال: كيف تلاعبيننا وتضعين لنا الاغاني والموسيقى وأهلنا يقتلون ويهجرون".
وتضيف رنا أن هذا يعكس الآثار السلبية لما يحدث على نفسية الطفل وتتساءل عن شخصية جيل المستقبل.
مشكلات سلوكية ونفسية
جهاد الخطيب 35 عاما، مرشد نفسي يقول: "الطفل غالبا ما يكرر السلوكيات التي يشاهدها من البيئة المحيطة به، فالمخزون المعرفي للأطفال اليوم يقوم على مفاهيم القتل والعنف وعدم وجود قانون سوى قانون الغاب".
ويوضح الخطيب بأن الطفل اليوم ينشأ على مفهوم حق القوة بدلا من مفهوم قوة الحق، وهو ما يؤسس لجيل يؤمن أنه لا يحصل على حقه إلا بالقوة وعلى حساب الغلبة وعدم وجود الرحمة أو الشفقة، عدا عن وجود الجهل وتردي التعليم.
"نائل" طفل يبلغ من العمر تسع سنوات تعرض للحظات مرعبة حين سقط أحد صواريخ الطائرة الحربية على مقربة منه في بلدته "كفروما" الواقعة في ريف إدلب الجنوبي مما أدى لاستشهاد أخيه أحمد 12 عاما، الذي كان بصحبته وأصيب هو بجروح طفيفة. لكن الضرر الأكبر الذي لحق بنائل هو المشاكل النفسية التي انعكست على شخصيته وسلوكه، أخذ نائل يتجنب الحديث عن هذا الموضوع، كما يتجنب المرور من المكان وكذلك اللباس الذي كان يرتديه أثناء الحادثة إضافة لحالة فرط تيقظ وكأنه بانتظار حدوث كارثة في أي وقت كما أصبح شديد البكاء وعدوانيا.
يصف الأستاذ الخطيب هذه الحالة علميا بـ "بي تي إس دي" وهي إحدى الأمراض النفسية التي يعاني منها 5% من سكان إدلب وريفها، نتيجة الحرب القائمة. الحل لمثل هذه الحالة بحسب الخطيب هو محاولة التغلب على هذا الموقف ومواجهة الأفكار المؤلمة إراديا بالحديث عنها، برسمها، بالكتابة عنها.
"أم نائل" 34 عاما، تتحدث عن حالة ابنها نائل حين حاولت أن تجعله يواجه أفكاره المؤلمة: "طلبت منه الحديث عما جرى معه في تلك اللحظات، ولكنه بدأ بالبكاء الشديد، أمسكت يده بقوة وبدأت أشعره أنني معه وأنه بأمان، ولم يكف عن البكاء حتى أعدت عليه عبارة "أنت بأمان" وعندها هدأ نائل وبدأ يحدثني عما جرى".
"أيهم" طفل في الثانية عشرة من عمره، يجلس وحيدا في باحة المدرسة لا يرغب بتكوين صداقات والسبب أنه نازح وليس من نفس المنطقة، هو لا يشعر بالأمان كما أنه لا يشعر بالانتماء، على حد تعبيره. فهو كل ثلاثة أشهر في بيت جديد، في مدرسة جديدة، مع أولاد حي جدد، هناك دائما شعور يراوده أنه سيغادر في أي وقت ويشعر دائما بعدم الاستقرار، كما يشعر أنه دون الأطفال الآخرين.
تمر الأيام والعنف الذي يمارسه النظام ضد شعبه يتزايد، وتتزايد معه المخاوف الكبيرة على جيل سورية القادم، جيل بات لديه من المشكلات والأزمات تستدعي معها مناشدة كل ضمائر العالم بإيقاف هذه الحرب.