بينما يتفرج العالم على مأساة اللاجئين السوريين في دول الجوار بعدما أصبحوا مادة دسمة للإعلام، وبينما تغص الخيم بآلاف الحكايا عن مآسٍ يندى لها جبين الإنسانية، وبينما ولد أطفال هناك لا يعرفون من الشتاء وثلجه وبياضه إلا طعم الموت والبرد والحرمان، فعمرهم من عمر الحرب تقريباً، يعيش أقرانهم في الداخل السوري معاناة ربما تساويها في القسوة.
تغيب آلاف القصص لنازحي الداخل السوري عن الواجهة، لتعدد أسباب ذلك بداية بمنع النظام السوري الوكالات الإعلامية من الدخول إلى تفاصيل الأحياء التي يسيطر عليها حتى الآن، لتنحصر الصور ببضع مقاطع يصورها الناشطون في دمشق سراً خشية مراقبة الأمن أو العواينية، ثانياً أن الكثير من الأسر والعائلات ترفض أن تقوم بهذه المقابلات على التلفاز خشية الملاحقة الأمنية، لتعود مشكلة التدقيق الأمني وتكون أحد العوائق التي تمنع من الإعلان عن هذه المآسي، بينما تبقى المشكلة الأكبر أن الدعم المادي يقدم في المرتبة الأولى للمخيمات ولهم الأفضيلة في كل شيء، لتعيش الكثير من الأسر في الداخل وتموت بصمت.
وليس ببعيد عنا وفاة ما يزيد عن 10 أشخاص في دمشق وريفها في الأيام الأخيرة جراء العاصفة الثلجية التي اجتاحت البلاد، توزع هؤلاء بين الغوطة الشرقية وجنوب دمشق ودمشق، حيث بات الناس هناك يتوزعون في الحدائق بعد أن أصبحوا بلا مأوى، بينما يعيش المئات في بيوت مهدمة بشكل شبه كامل قاموا بمداراة البرد بوضع بطانيات بدلاً عن الأبواب وشوادر بلاستيكية عوضاً عن النوافذ.
أما عن التدفئة، فقد حرمت الكثير من العائلات من الحصول على وسائل للتدفئة في الداخل، لفقدان مادة المازوت وتوزيعها بشكل شحيح جداً، أما عن الغاز فلا يحصل عليه إلا من باستطاعته ذلك من المقتدرين حتى أسعار الحطب ارتفعت قياساً لما كانت عليه سابقاً.
"أبو ياسر" أحد العاملين في مجال الإغاثة في مؤسسة "غراس النهضة"، يتحدث لـ"أخبار الآن" عن الغياب الغير مبرر لنازحي الداخل عن الإعلام وعن الجميعات الإغاثية التي تشترط أول ما تشترط في تبرعاتها أن تصور عمليات التبرع، مما يعرض الناس لهوان السؤال والحاجة، ويضيف أبو ياسر أن "حملتهم بدأت في بداية شهر تشرين الثاني، أي أنهم استطاعوا أن يتداركوا قليلاً أمر العاصفة الثلجية القادمة، وتم تنفيذ حملتهم في الغوطة الشرقية والغوطة الغربية وجنوب دمشق والقلمون.
ووفقاً لـ"أبو ياسر"، استطاعت الحملة حتى الآن أن تغطي نفقة 15 ألف شخص في دمشق وريفها، سواء من تأمين الحطب أو الوقود أو الملابس الشتوية أو البطانيات، وأخيراً توفير الطعام للطلاب في المدارس في المناطق المحاصرة الذين يتعرضون لحالات إغماء شديد نتيجة الجوع والبرد وسوء التغذية.
ويضيف أن العاصفة الثلجية العنيفة التي جاءت أعاقت حركة المساعدات بشكل كبير، إذ أن أغلب الطرق المؤدية إلى المناطق المحاصرة مغلقة، ويبدو الوضع الأسوأ في غوطة دمشق التي شهدت نزوحاً غير مسبوق، ولدى انتقال العائلات إلى مناطق أكثر هدوءاً ازدادت احتياجاتهم فأضيفت إلى احتياجات التدفئة احتياجات المأوى، حيث أن أغلب العائلات باتت تعيش في بيوت من التبن أو في الخيام أو في منشآت حكومية مهجورة، ناهيك عن الغلاء الفاحش في الأسعار بسبب الحصار الخانق، ومن هنا بتنا نسمع عن حالات الوفاة نتيجة البرد.
واستقبلت المنطقة الجنوبية آلاف المهجرين من المناطق التي اجتاحتها قوات النظام، ولم يقل وضع المنطقة الجنوبية سوءاً عن وضع الغوطة الشرقية، ومثلهما الغوطة الغربية التي تمتاز بمناخها البارد جداً قياساً لغيرها وتعاني هي الأخرى من تغييب إعلامي كبير وعدم وصول أي دعم إليها حتى عدم وجود مجالس محلية، وقد يصل الحال بالكثير من العائلات إلى الوضع الإنساني الكارثي، ولم تستطع الجمعيات داخل سوريا على امتدادها أن تغطي احتياجات هؤلاء الناس جميعهم.
الحاج أبو محمود 74 عاماً، أحد النازحين من منطقة السبينة إلى مخيم اليرموك، لم تكن قصته وحيدة ولا حصرية، ولم تكن معاناته حكراً عليه وحده بل يشابهه الكثير من السوريين، حيث انتقل الحاج مع ابنته المصابة بشلل نصفي وأحفاده الأربعة الأيتام والذي يبلغ عمر أكبرهم 7 سنوات إلى غرفة صغيرة في قبو في مخيم اليرموك، ويتحدث الحاج عن معاناته أنه اضطر أن يركب سيارة "سوزوكي" مع ست عائلات ويدخلوا إلى المخيم، لكن الكارثة بدأت تكشر عن أنيابها مع قدوم فصل الشتاء، حيث لم يعد بإمكان العائلة تأمين متطلباتها من الطعام ووسائل التدفئة والبطانيات، سيما أنهم قد خرجوا بما عليهم من ثياب فقط، وكلما سمعوا خبراً عن قدوم مساعدات لم يتجرأوا للخروج والسؤال عنها لأنهم ليسوا من أهل المنطقة أصلاً، ومع قدوم فصل الشتاء باتت الأمطار تغرق الغرفة التي يسكنون بها، حتى أصيب الطفل الصغير ذو الثلاثة أعوام بذات الرئة وأصبح بحاجة إلى رعاية طبية مكثفة، وتمكن فريقنا من مساعدته ومساعدة أسرته، لكن لك أن تتخيلي أن آلاف العائلات هكذا تعيش ولازالت الكاميرا تعمى عن أهالي الداخل.
هذه الجميعات التي نشأت بشكل بسيط ومصغر وحاولت بشتى ما أوتيت من أمل أن تزرع فتيلة حياة بين أزقة الأحياء المدمرة لم يقتصر عملها على توزيع المؤن والمساعدات، فقد حاولت التفكير إلى مدى أبعد من ذلك وهو مساعدتها العائلات على تأمين دخل شهري لها.
من ذلك قصة السيدة أم زياد، التي اضطرت للخروج من مناطق الحصار في ريف دمشق ليستقر بها الحال في منزل إحدى قريباتها التي تعيش وحدها، حيث خرجت السيدة مع أولادها دون زوجها الذي كان ملاحقاً من قبل قوات النظام بتهمة انشقاقه، إلا أن السيدة وبعد أربعة أيام ضاقت ذرعاً بهم فطردتهم من المنزل وباتت العائلة مشردة تنام في المسجد، وصارت تبحث عن مأوى جديد إلى أن حصلت على بيت قديم في الحارات الشعبية في دمشق، وصار الابن الكبير يشتري الخبر ويعيد بيعه ليحصل على مردود ولو قليل من المال فيغيث عائلته، إلا أن أحد الحاقدين عليه من زملائه وشى به لأجهزة المخابرات بأنه معارض ومنشق فاعتقله النظام، وهنا غاب المعيل الوحيد عن العائلة، وصارت الأم تطلب عملاً تغيث به الأطفال الصغار، وبدأت تستعمل خبراتها في الحياكة والصوف والتطريز وساعدتها الجميعة على بيع ما تعمل به والاستفادة منه فتداركت قليلاً أزمة الشتاء التي أطلت عليها.
وفي حي برزة الدمشقي، تعيش السيدة "هاجر" التي فرت من مدينة زملكا مع أطفالها في بيت مهجور محاط بالبطانيات فلا شيء يفصلهم عن هذا البرد الجحيمي سوى قماشات رقيقة يطايرها الهواء كيفما اتجه.
تتعدد القصص داخل دمشق وفي محيطها عن آلاف العائلات، آلاف العائلات بلا مأوى مشردة في الخيام أو البيوت المهدمة، ويشكو هؤلاء من التعتيم الإعلامي والإغاثي بحقهم، فعلى سبيل المثال في الغوطة الشرقية يعيش 2500 يتيم أزمة شتاء دون أن يقدم لهم أي منحة ألبسة شتوية ولا أحذية ولا صوف، هذا إن تحدثنا في نطاق الغوطة لشرقية أما إذا خرجنا قليلاً حولها وداخل دمشق، فقد يتجمد قلبك وتصاب بصقيع داخلي من هول ما قد تسمع من قصص مغيبة عن الإعلام.