لم تشفع له سنين عمره الطويلة التي عاشها في وطنه من النزوح عن دياره التي لم يفارقها أبدا، هذا الرجل أجبر مع عائلته على ترك منزله ووطنه حاملا معه ذكرياته والكثير من الألم والمعاناة.
في غرفة صغيرة تفتقر لأبسط مقومات العيش الكريم وعلى قمة أحد الجبال، في منطقة البقاع في لبنان يعيش العم أبو أنس مع عائلته، غرفة سقفها من التوتياء وجدرانها مهترئة ومثقبة غير مهيئة للسكن لاتكاد تقيهم المطر والبرد.
يعيش أبو أنس وزوجته المنهكة وابنته 12 عاما وحفيدته سنتان، إستطاع هذا الرجل المسن من الفرار مع عائلته من مدينة حمص في رحلة متعبة استمرت أربعة ايام بدأت من نزوحه تحت القصف، حيث جمع ما يمكن حمله وغادروا منزلهم ساروا في طرق وعرة مخاطرين بكل شيء أملا في الوصول إلى مكان أمن فكانت وجهتهم إلى لبنان.
القصف المتكرر من القوات التابعة للنظام وإستهداف الطيران بلدته بالبراميل وإنتهاكات الشبيحة والأمن الذين إعتقلوا أبناءه الثلاثة كل ذلك دفعه للبحث عن مكان أخر أكثر أمنا وخوفا على من بقي من عائلته من الأذى.
يروي أبو أنس قصته قبل أن ينطق بأي كلمة بدأت الدموع تزرف من عينيه وهو يتذكر من أين سيبدأ قصته تنفس عميقا وقال الحمد لله ثم بدأ: "كنت أعيش في مدينة حمص في أحد البلدات الريفية كان عندي عمل أعيش من خلاله أنا وعائلتي، وكان لأولادي محال تجارية وكنا بأحسن الأحوال، وعند إندلاع الثورة في سوريا لم يكن بوسعنا أن نفعل أي شيء كنا نراقب ما يحدث نحن عائلة تريد العيش بسلام دون الخوض في التفاصيل، يتابع حديثه انا وعائلتي نريد أن نعيش بسلام وأمان، همنا أن ينتصر الحق وتتوقف آلة القتل، ولأن النظام وأعوانه كان هدفهم إنتهاك كل شيء فكان لي ولعائلتي نصيب كبير من هذه الإنتهاكات، إقتحم الجيش منزلنا وقام بتفتيش ما بداخله دون أي سبب، كانوا يتذرعون بالبحث عن أسلحة ومسلحين على الرغم من أننا لا نملك سوى سكاكين المطبخ ولا يوجد لدينا أي سلاح، إلا أنهم نهبوا المنزل واالمحال التجارية التي نعيش منها وعاثوا فسادا وتخريبا بهم، لكن حقدهم الأعمى لم يتوقف عند هذا الحد، بل اعتقلوا أولادي الشباب الثلاثة.
يتابع أبو أنس حديثه بعد أن امتلأت عيناه بالدموع، وهو يتذكر ابنه الكبير "أعادوه إلي جثة هامدة بعد اعتقاله بأيام وتعذيبه حتى الموت".
ويبقى مصير أولاده الباقين غامضا فلا خبر عنهم مذ اعتقالهم، ومازال ينتظر عودتهم بفارغ الصبر أو سماع أي نبأ عنهم أنهم على قيد الحياة.
خوف ابو أنس على زوجته وابنته، وحفيدته، الذي يعتبرها أمانة في عنقه بعد وفاة والدها وحالته الصحية السيئة، دفعتهم للمسير في طريق الموت إلى أن وصلوا بسلام إلى لبنان، إلى المجهول، لا منزل لا مأوى لامعين سوى الله، أحد الأهالي في هذه القرية الجبلية أمن لهم هذه الغرفة مقابل أجار 60 دولار شهريا.
أقامت عائلة أبو أنس في هذه الغرفة، وزوجته بدات بالعمل في الأراضي الزراعة لتأمين اجار الغرفة والمعيشة، لكن مع انتهاء موسم الزراعة انتهى العمل وبدأت العائلة تتوسل صاحب الغرفة أن يعطهم مهلة من الزمن علهم ينجحوا في تأمين أي عمل لدفع أجار الغرفة.
أبو أنس لاتسمح له حالته الصحية العمل هو رجل مسن ولديه مرض في القلب، أجري له عدة عمليات سابقا قلب مفتوح، انسداد شرايين، ولم يكتف قلبه بهذه الأمراض بل زاده حرقة وألما وشوقا منزل ووطن لم يعتد الإبتعاد عنهم وخسارة ابنه البكر، وألم ومعاناة كيف سيصارع هذا الرجل صعوبة العيش للبقاء على قيد الحياة وتأمين متطلبات هذه العائلة الصغيرة التي أصبحت أمانة في رقبته كما يقول.
إضطرت الزوجة إلى العمل في الزراعة إنتهى موسم الزراعة إضطرت الزوجة للبحث عن مصدر رزق أخر لكن دون جدوى يقول أبو أنس: "نسعى بكل جهدنا أن نعيش من جهدنا وتعبنا لا نريد التسول ولكن لم يكن أمام زوجتي وسيلة أخرى للبقاء على قيد الحياة وتزرف عينيه ألما متنهدا بحرقة نطلب المال من الناس لتأمين سعر الدواء وتأمين طعام الأطفال فقط، وقبل أن نلجأ لذلك كانت زوجتي تبحث في القمامة عن أي شيء يؤكل وكثيرا ما كننا ننام دون طعام.
معاناة أبو أنس التي بدأت بهروبه من الموت في طريق مجهول وصولا إلى معاناة لعل الموت أرحم منها كما يقول، فهو الآن يعيش مع عائلته ظروفا صعبة، في غرفة جبلية لاتقهيم ثلج وبرودة الشتاء ولا أمطارها، لايملكون سوى القليل من الحطب يوقدون به مدفأتهم، وبقايا طعام تجمعه زوجته من أهالي القرية، أبو أنس تزداد حالته الصحية سوء يوما بعد يوم فهو بحاجة لدواء، لطبيب، لعناية، لكن ليسوا قادرين على تأمين الطعام فكيف الدواء؟
لا مال للدواء ولا للطبيب ليس لديهم سوى العناية الإلهية، يحلم أبو أنس أن يوقظه أولاده المعتقلين يوما ما من نومه، يطلب من الله أن يرحم ابنه ويتقبله من الشهداء، يطلب العفو من زوجته مرارا، لأنها أصبحت هي رب الأسرة ولأنها وصلت إلى هذه الظروف القاسية وهي تتحمل كل شيء الأن وتسعى للبقاء على قيد الحياة، يطلب من الله أن يحمي حفيدته أمانة عنده بعد موت والدها، وأن يحمي ابنته الخائف عليها دوما ويطمح لها بحياة أفضل مما يعيشون الآن، يتمالك أبو أنس قواه، يمسح دموعه، شاكرا الله، ولكن رغم كل هذه المعاناة والحياة المريرة إلا أن الأمل والتفاؤل بالعودة وسماع نبأ الإفراج عن أولاده هو مايبقي أبو أنس وعائلته صامدا في وجه كل المخاطر من جوع ووبرد وحاجة.