أحمد العبدو " ناشط ثوري إعلامي " من مدينة جسر الشغور في محافظة إدلب ، يبلغ من العمر 23 سنة من الأسماء التي برزت على مدار ثلاثة أعوام ونصف من عمر الثورة السورية، يروي لأخبار الآن عن حادثة اعتقاله في بداية الثورة فيقول: "بعد مضي أسابيع قليلة بدأت المظاهرات السلمية في مدينة جسر الشغور وفي بداية نيسان 2011 ، بدأت تخرج مظاهرات يومية تجوب الشوارع والأسواق والساحات العامة ، فقد قررنا العمل على التظاهر السلمي والاعتصامات اليومية من أجل الوصول لمطالبنا ".
ويضيف العبدو: "في يوم الجمعة 13/5/2011 (جمعة الحرائر) خرجت مظاهرة تضم أكثر من 6 آلاف مدني، وكان الجميع يهتف بمطالبه دون أي خوف، وعندها خرج علينا عناصر الأمن من مفارزهم، وتوجهوا إلى الساحات العامة، والشوارع لفضِّ المظاهرة مصطحبين معهم قوات حفظ النظام ومكافحة الشغب، وما يقارب 200 عسكري، و 100 متطوع من الجيش الشعبي أغلبهم من خارج محافظة إدلب، وعند وصولنا للساحة العامة (ساحة الحريّة) في وسط المدنية قامت عناصر حفظ النظام وعناصر مكافحة الشغب بإطلاق الأعيرة الناريّة وقنابل الغازات المسيلّة للدموع، مما تسبّب بوقوع إصابات بين صفوف المتظاهرين".
يكمل أحمد حديثه فيشير إلى أن مجموعه من متطوّعي الجيش الشعبي قاموا بحرق مقر فرع الحزب الذي يشرف على الساحة العامة لإتهام المتظاهرين بإشعال الحريق لتخريب مؤسسات الدولة، ثم طلبوا سيارات الإطفاء لإخماد ذلك الحريق، وعند وصولها توجّهت نحو المدنيين لتفريقهم وفضّ المظاهرة.
أثناء قدوم سيارات الإطفاء كان أحمد يقف إلى جانب الطريق يشعر بالدوار واحتراق في العينين من كثرة الغازات المسيلّة للدموع. يصف لي المشهد وكأنه أمامه حتى هذه اللحظة "لم أكن أتمكن من رؤية كل ما يدور حولي.. كنت أسمع أصوات المتظاهرين يهتفون حريّة.. حريّة.. حريّة، وأصواتهم تعلو أكثر فأكثر متحدّين قوات الأمن ليثبتوا لهم أنهم لا يشعرون بالخوف من رصاصهم. بدأت أسمع ضجيج سيارة يقترب مني، وهدير الماء ينسكب على الطرق المتشقّقة من حرّ الصيف وأصوات الناس تصرخ.. الله أكبر الله أكبر أنتبه يا أحمد أنتبـــــــه.. وعلى الرغم من ألم عيناي أجبرت نفسي على فتحتهما محاولاً أن أدرك ما يجري حولي".
ويتابع: "كانت سيارة الإطفاء تتجه نحوي بسرعةٍ كبيرة بدأت أشعر بالهواء المرافق لها، أمتارٌ قليلة تفصلها عنيّ لم أستطع التحرّك لحظتها وما هي إلاّ أجزاءُ من الثانية حتى شعرت بها وقد صدمتني وطرحتني أرضاً فلم أعد أشعر بشي مما يجري حولي"… "أخبرني أحد أصدقائي أني غبت عن الوعي واستلقيت على الأرض كمن فارق الحياة، وعندها بدأوا يحاولون سحبي لإسعافي لكنّ سيّارات الإطفاء بدأت تحول دون ذلك بغية اعتقالي محاولةً تفريقهم وإخافتهم بأنها ستصدم كل من يقترب، وقام عناصر الأمن العسكري بتوجيه سلاحهم نحو المدنيين لإخافتهم وراحوا يطلقون الرصاص لكن صديقي سامر لم يكترث بهم وأكمل طريقه نحوي وعند وصوله اقتربت منه سيارة الإطفاء مسرعةً مرّة أخرى ليرتطم ذراعه هو الآخر بها ويقع مغمياّ عليه بجانبي دون إصابات، وبعد قليلٍ من الوقت استطاع بعض المتظاهرين الوصول إلينا وإسعافنا، كانت الجروح تملأ جسدي وملامح وجهي قد طُمست من شدة النزيف".
ويضيف أحمد: "اتجهت إحدى السيارات المدنية بنا للمشافي الخاصة لكنّهم رفضوا استقبالنا بسبب توجيهات النظام لهم بعدم استقبال أي جريح أو مصاب من جرحى المظاهرات فكان خيارهم الوحيد أن يلقوا بنا على أبواب المشفى الوطني في جسر الشغور بسرعة وإلاّ سيستمر نزيفنا حتى الموت.. على باب المشفى الوطني وجدت نفسي مرميّاَ، وعلى الرغم من تواجد عناصر للأمن إلا أنهم لم يقتربوا مني بل أرسلوا ممرضة لتنزع عنّي ملابسي خوفاً من ارتدائي حزام ناسف كما يدّعون أو ما شابه لذلك".
ويتابع: "أم ياسر الممرضة التي جرّدتني من ملابسي أخذت تروي لي تفاصيل دخولي للمشفى، أخبرتني بأنهم وضعوني في قبو المشفى ولم يأخذوني لغرفة الإسعاف ثم طلبوا منها مرافقتهم لقسم البرادات هناك في ثلاجة المشفى".. يكمل أحمد قصّته لأخبار الآن: "شعرت ببرودة شديده تسري في أوصال جسدي وبدأت أسأل نفسي أين أنا يا تُرى؟.. لم تكن حواسي تستجيب لي كما أريد، فلا أستطيع أن أفتح عيني ولا أقدر على النطق ولم يكن بإمكاني أن أسمع بشكل جيد كنت أشعر لحظتها بجسمي مشلول بشكل تام".
ويتابع: "هي دقائق مرّت طويلة بالنسبة لي سمعت صوت باب ُيفتح، وبدأ جسدي يتحّرك فشعرت، بيدي تلامس صدري فأحسست عندها أنيّ عارٍ داخل كيس قماشي (كفن).. بدأت الأصوات تتسرب لأذني أكثر فأكثر وحركة قريبه مني رحت أشعر بها، أحدهم يضع يده على رأسي من فوق القماش وآخر يقول: يا حكيم هاد الشب ميت من وقت وصل عباب المشفى".. "لحظتها شعرت أني قد متُّ فعلاً فلا أستطيع الحركة من كثرة الجروح والنزيف ولا أستطيع التحدّث ولا أي شيء يجعل الطبيب يعلم أنّي داخل الكيس على قيد الحياة".
يضيف أحمد: "لكن ما جعلني أشعر بالأمل جواب الطبيب حيث قال: أنا طبيب شرعي يا سيدي ولازم أفحصه وأعمل تقرير شرعي عن سبب الوفاة والوقت..
بعدها أعاد الطبيب يده فوق رأسي، وسمعت صوت أقدام أحدهم يمشي باتجاهنا، بدأ الطبيب بفتح كيس الموتى الذي أنا بداخله، وشعرت بضوء يقتحم عينايّ المغلقتان، والكيس يفتح فوق جسدي شيئاً فشيئاً، رأسي، ثم وسط جسدي حتى قدماي"… "وضع الطبيب يده قرب يدي على السرير، بدأت أنتظر أن يضع سمّاعته على صدري ليسمع دقّات قلبي، أن يضع يده حول معصمي ليشعر بالنبض، أن يفعل أي شيء آخر ليعلم أني ما زلت على قيد الحياة، لكن لم يحصل شيء من الذي كنت أتمناه، فأدركت لحظتها أن الطبيب جاء ليكتب تقريره ويمضي دون أن يعمل بإخلاص أمام جثتي الهامدة".
لن أستسلم عليّ أن أبذل ما بوسعي للفت انتباه الطبيب فأنا ما زلت على قيد الحياة، لا أريد أن يعيدوني للثلاجة وأموت من شدّة البرد، بدأت أحدث نفسي بذلك وأحاول أن أستجمع قواي، أذكر أن صرخت بصوتٍ عالٍ جداً، وأمسكت بيد الطبيب، وفتحت عيناي بقوّه ونظرت للطبيب.. أذكر نظرة الطبيب لي الممتلئة بالرعب، فأنا داخل براد المشفى وأنا حي لم يكتمل مشهد الطبيب الخائف المتفاجئ ليقطعه صوت أقدام أحدهم يركض نحونا يحمل بيده بندقيته يهوي بها على رأس الطبيب ليرتطم جسده بجسدي وقد غاب عن الوعي.
دخل اثنان من عناصر الأمن إلى الغرفة وحملوا الطبيب عنّي ووضعوه ممداً على الأرض ، ثم أعادوا إغلاق الكيس الذي أنا بداخله ونقلوني إلى سيارة أقلّتني إلى مفرزة الأمن العسكري.
بداً اليوم الأول من التعذيب دون اسعافات أولية وبدون خياطة الجروح التي تملئ جسدي ولا حتى محاولة إيقاف النزيف الذي ملأ ثيابهم كما قالوا لي في السيارة.. تعذيب مستمر بدأ بالشبح والضرب بالعصا والصعق بالكهرباء، وأنا أعلم أن جسدي قد لا يستطيع أن يصمد كثيراً أمام آلات تعذيبهم فأفارق الحياة ولكنّي رغم ذلك كنت أشعر بسلام في داخلي أبعد عني الحزن، ففي هذه المرة سوف أموت حقّاً سيتوقف قلبي عن النبض وأصبح جثة هامدة لا ترى لا تسمع ولا تتكلّم، لن أكون عاجزاً أمامهم كما كنت في براد المشفى وقد راحوا يجهّزون لدفني في إحدى المقابر الجماعية وأنا أستمع لضحكاتهم وشتائمهم وسخريتهم مني.
موت حقيقي هذه المرّة، هذا ما رحت أفكّر به، استمر اعتقالي ثلاثة أيام، وأجبروني على الاعتراف بما لم أقوم بفعله، وكانت إحدى تلك الإعترافات مع توقيعي على ورقة أتذكّر قليلاً مما كتب فيها أنني قمت بحرق سيارات الاطفاء الثلاثة، وحرق شعبة الحزب أيضاً، وكانت الأضرار المادية تقدر بحوالي 24 مليون ليرة سورية مع تهم كثيرة غيرها كتعاملي مع الغرب وقبض رواتب للمتظاهرين من اجل إثارة الفوضى و تدمير البلد.. لكن كل ما اعترفت به، وكل ما تعرضت له من تعذيب كان بالنسبة لي أسهل من الموت برداً.. في براد المشفى وأنا ما زلت حياً يقول أحمد..
في اليوم الأخير خرجت مظاهرة كبيرة جداً تطالب بفك أسري من سجونهم وأقام المتظاهرين اعتصامات أوقفت حركة السوق الاقتصادية، وكانت كثرة عددهم سبباً في قطع الطريق التجاري بين ميناء اللاذقية ومحافظة حلب.. عندها قال العميد سامر: "طلعوه من السجن وخلّيه يوقع على ورقة براءة، وأيمت ما بدنا منرجع منجيبوا لعنا.. لأنو هيك أجت الأوامر مشان يفض الاعتصام".
ينهي أحمد حديثه لأخبار الآن بالقول: "حصلت على حريتي وأنا جريح النفس قبل الجسد وكدمات الضرب والتعذيب تملأُ ما تبّقى من جسدي الذي ينزف حتى أخر يوم من أيام اعتقالي، لكني أيقنت أن ما حصل في ثلاثة أيام في أقبية النظام أهون علي من أن أموت في ثلاجة وضعوني فيها وانا ما زلت حياً".