فاز الكاتب الشاب نور الدين العبدو من سوريا بجائزة موقع بدايات للقصة القصيرة وقيمتها 1000$ حيث تبرّع نور الدين فور علمه بالجائزة بالمبلغ كاملا لفريق ملهم التطوعي الذي يعمل على إغاثة السوريين.
و الشاب نور الدين العبدو مهتم بالشأن الثقافي وكانت لجهوده اليد الطولى في افتتاح مركز (معًا) الثقافي في جبل الزاوية بإدلب، في نشاط يعيد إلينا الأمل في المناطق المحررة التي تسيطر عليها المعارضة السورية. وينشط فكرة العمل السلمي الأهلي كوسيلة مقاومة للحرب والموت والدمار وإعلاء كلمة الحياة، والقيم الاصيلة التي قامت عليها الثورة السورية والتي حاول أعداؤها بكل قوتهم إفراغها من محتواها ومعناها. وينقذ ماتبقى من شبابنا من اليأس والضياع بعدما دمر طول فترة الحرب آمالهم وأحلامهم ومنازلهم. وأصبح طريقهم يقتصر على سبيلين إما الموت أو الهروب إلى مكان آمن لتتقفهم الخيام أو مراكب الغرب أومحاولات اللجوء وشروطه الصعبة. واقتصرت أنشطتهم المدنية داخل سوريا على الأعمال الإغاثية والطبية.
وفي مناطق الاحتدام وعلى الرغم من القصف والبراميل المتفجّرة، جاء مركز معًا الثقافي المكتبة والسينما والندوات ودورات اللغة والتمريض والمهارات المتعددة، ليعيد إحياء الخط المدني للثورة المستمرة. ويضخ في الشباب الأمل ويلقي لهم بطوق نجاة.
ويسر أخبار الآن أن تنشر نص القصة الفائزة: "من العلامات الكبرى لقيام الثورة" والذي كتبه نور الدين العبدو عن أخيه الشهيد قائلاً:
" كتبته عن أخي ابراهيم وأهديه لروحه، وأعده أن أبقى على عهده ووعده استطعت أو لم أستطع.."
من العلامات الكبرى لقيام الثّورة:
– بلشون , شهر آب صيفَ العام 2009.
على مصيفِ دارنا -أرض الدارِ كما تُسمّى في قريتي- وقفتُ وأهلي ننتظِرُ بفارغِ الصّبر صدورَ نتيجةِ امتحانِ أخي ابراهيم الذي كانَ قد تقدّم لامتحاناتِ الفرعِ العلميّ للشهادةِ الثانويّةِ العامّة ذلكَ العام. ابراهيم الابن السابعُ لعائلةِ أبو محمّد عارف –كما اعتاد أهل القريةِ مناداتنا- شابٌ طويلٌ ذو شعرٍ أشقرٍ طويلٍ يتدلّى إلى ما تحت كتفيهْ , وكانَ الدورُ عليهِ ذلكَ العامُ في تحقيقِ حلمِ والديهِ.
يجلسُ ابراهيم على عتبةِ المطبخِ يقّلمُ أظافرَ أصابعِ قدمَهُ اليمنى متظاهراً باللّامبالاة بأمر النتائج ,بينما أقفُ على الحائطِ أنظرُ إلى المدى مترقّباً النتائجَ وكأنّها ستأتي من خلفِ الجبل البعيدِ الذي يفصلُ قريتنا عن تُركيا. "أف .. لعما بقلبهن ولك ليش لهلأ … ليش كل هالتأخير" ,بهذهِ الجملة عبّرت عن نفاذ صبري ليحرّك ابراهيم نظرهُ باتّجاهي ويرد " وانت شو فارقة معك .. بتقول انت يلي ر تطلع نتيجتو مو أنا" ثمّ يعيد التركيز في تقليمِ إبهامِ قدمهِ ويضيف بصوتٍ خافت " ليكني أنا صاحب العلاقة ومو فارقة معي".
"هلأ بدوب التلج وببان الزلط" اعترض أخي الأكبر محمد الحديث وهو ينتشُ قضمةً كبيرةً من فحلِ بندورة بلديّة كانَ قد زرعها ذلكَ العام في الأرضِ المحيطةِ بمنزلنا الريفيّ الذي لطالما شبّههُ أهل القريةِ بباصِ النقلِ الداخلي أو جحشِ الدولة كما يدعونه.
" والله يا ابراهيم إذا بتدخل طب لأعملّك تعليلة وأعزم عليها كل أهل الضيعة"
بهذا التصريحِ أدلت أمي التي تحجّجت يومها بنتيجةِ ابراهيم لعدمِ تحضيرِ وجبةِ الغداء.
" أمي ما دامكِ بتحبّي الطب كل هالقد .. ليش ما درستي طب"
سألَ عمّار أخي الاصغر ذو التّسعةِ اعوامِ حينها ببراءةِ الأطفال ولتردّ أمي
"آخ يا ابني لا تذكّرني .. كلو من أمي الله يسامحها .. لسا ما صار عمري 13 سنة وراحت جوزتني لأبوك .. ولا والله كنت مجتهدة بالمدرسة".
"مزبوط أمي والله لو مانك متجوزة أبوي كنتي صرتي صالحة صنقر"
علّقتُ متهكّماً.
"صحلّك .. وليش مانك عاملة غدا؟ ولّا الجمل عرج من شفته"
بهذهِ الكلمةِ ثأر أبي العجوزُ الذي كانَ مستنداً على مخدّتين قاسيتينِ لكبريائه بعد أن نهض رأسه.
لطالما كانَ حلمُهما المشترك أن يدخلَ أحد أبنائهم العشرة كلّيّة الطب
لكنّ أيّاً منّا لم يفلح في ذلك. ففيما دخلت الابنةُ الأكبر ’لينا’ كلّة الهندسة المدنيّة ,اختارت ’فوزيّة’ التي تليها معهدَ الرياضيّات على الرغمِ من مجموعها العالي الذي أتاحَ لها الاختيار من ضمنِ كلِّ الفروعِ عدا الطب ,لأنّه كان ملزماً بوظيفةٍ حينها ,وبسبب صعوبةِ الظروفِ الماديّةِ للعائلة ,وبعد نصيحةِ لينا لها بعدمِ دراسةِ الهندسةِ لصعوبتها. درس ’محمّد’ الكيمياء و’عبدو’ الطباعةً والنشر ,فيما درسَ ’بديع’ الصحافة وكنتُ حينها طالباً في السنة الثالثةِ أدرسُ اللغة الإنكليزيّة في جامعةِ حلب. وكان الأمل معقوداً في ذلك العامِ على ابراهيم في تحقيقِ الحلمِ الذي ظلَّ عصياً على التحقيقِ مدّة ستّة أخوة.
"آخ يا ابراهيم .. لهلّأ ما حدا من أخوتك فشّلّي قهري ودخل طب .. حقّق لي حلمي ولك ابني قبل ما موت .. حرام يعني افرح بهالعمر!"
قالت أمّي محاولةً تحميل ابراهيم الشعورَ بالمسؤوليّة.
"أمي الفحص قدمتو ومشي الحال , ما رح ينفع هالحكي هلأ ,بقي نص ساعة بالكتير وبدوب وببان الزلط متل ما قال محمد"
ردّ ابراهيم متبعاً تعقيبهُ بضحكةٍ عريضةٍ وهو الذي لم يعتد على التلفّظ بمفرداتٍ من هذا القبيل.
يُسمعُ رنين الهاتفِ الأرضيِّ فأقفزُ من على الحائط واجري بسرعة باتّجاه السّمّاعةِ فيما يلحّن ابراهيم لحناً بطريقة التصفير مستمراً في التظاهرِ باللامبالاة.
"أوووووه فوزية مشان الله لا بقا تشغلي الخط .. عبنستنى النتيجة هلأ وقتك .. يلّا سلام سلام ما بيّن شي لسا"
بهذه الطريقةِ واجهتُ أختي المتزوّجة في حلب والتي تتوقُ هي الأخرى لمعرفةِ نتيجةِ أخيها طالباً منها عدم اللّعب بأعصابنا مجدّداً.
كانت لينا قد استنفرت زميلتها في العمل على شبكة الإنترنت منذُ الساعةِ الثانيةِ ظهراً لمراقبةِ النتائج المنتظر صدورها في الرابعةِ عصراً ,حيثُ انّ خدماتِ الإنترنت لا تُغطّي قريتي النائيةِ في شمالِ سوريا إلى هذا اليوم. "صارت خمسة إلا ربع ولهلأ ما بيّن شي .. يلعما بقلبن ليش كل هالتأخير
" أف." تأفّفتُ معلناً نفاذَ آخرَ جرعاتِ الصبر.
يرنُّ هاتفُ لينا النقّال فتتوجّه انظارِ كلِّ الموجودينَ إلى شاشتهِ الصغيرة في حينِ يخرجُ بديع من الحمّام مسرعاً يعقدُ أزرار بنطالهِ وقطرات البولِ ارتسمت على الأكمام ويركض باتّجاه مركز الكون حينها هاتف لينا "هاي أم نورس .. سمعوا" أمرتنا لينا بالصمت. مرّت الثواني سنواتٍ قبل أن أسمعَ صوتً لينا تردّد كلام أم نورس
" 234 من عدا الديانة .. بصلاة محمد!؟ ..
ولك الله يبشرك بالخير الله يخليلك ولادك الله .." صرختُ بأعلى صوتي متجاهلاً حديثَ اختي مع المبشّر على الهاتف ,بينما أسرعت أمّي إلى الحائط المُطلِّ على الشارعِ العام وأطلقتْ عدّةَ زغاريدَ طويلةً متتاليةً معلنةً أنَّ حلمها قد تحقّق ,قبل ان تنهالَ بالقبلِ على ابراهيم مردّدة بدونِ وعيٍ
"الله يرضى عليك ,الله يرضى عليك يا ابراهيم انت يلي حقّقتلي حلمي .. أنا هلأ صرت أم الدكتور"
في الوقت الذي اختلفت طرائق التعبير عن الفرح لدى افرادِ كلِّ العائلة.
قبّلت يدَ أمّي وخلّصتُ ابراهيم من بينِ يديها ,قبّلتهُ وهنّأته وانزويت في إحدى الزوايا.
"عبتبكي؟"
سألني مقترباً منّي حاضناً لي بين ذراعيه القويّتين المدرّبتينِ جيّداً ورددت
"ألف مبروك يا خيّي ,والله مو عاطي فرحتي لحدا"
لطالما لم أجدِ طريقةً أخرى للتعبيرِ عن كلِّ ما يتعلّق بأخي الذي يصغرني بعامين غير البكاء.
تلكَ السهرةُ بعد أن اعتدنا الأمر وكانت تفاصيلُ المجموعِ قد وصلت ,سألت ابراهيم مستغرباً فقدانهُ اربع علاماتٍ في مادّةِ التربيةِ القوميّة اثناءَ جلوسنا لتدخين النرجيلة على عتبةِ المنزل مع أولادِ عمومتنا ’عبدو’ و’مصطفى’ و’مجدي’ وفي الوقتِ الذي كانت نسوةُ القرية ترقصُ في التعليلةِ التي نذرتها أمي:
"ولك ابراهيم ,علامتين بالكيمياء عادي ,بس أربع علامات بالقوميّة يا زلمي!! ولك حدا برّوح كل هالعلامات بأسهل مادّة!"
– أصلاً هون القوة ,انت أشو فهّمك. ردّ ابراهيم على سؤالي متبادلاً ابتسامةً خبيثةً مع ’عبدو’ على يساري.
"أشو يعني!؟" هكذا علّقتُ أنا الغشيمُ في السياسة منقّلاً ناظريَّ عليهِ وعلى عبدو الذي لم يستطعِ الاستمرار في الابتسام وانتقل للضحكِ بعراضة.
"لا تقلّو هاد فضيحة" هذا ما ختمَ به ابراهيم ,طالباً من عبدو عدمَ الشرح.
ما تبقّى من الحكاية يظهرُ جليّاً بعد أربعِ سنواتٍ، في مقطعِ الفيديو الذي تودّعُ أمّي فيهِ إبراهيمها بعدَ أن تُوفّيَ خلال مشاركته في إحدى المظاهرات السلميّة في سوريا عندما قاطعت المصوّر الذي قال
"الشهيد ابراهيم العبدو" بالقول "قول الدكتور ابراهيم .. هاد ابراهيم الدكتور .. دكتور هاد دكتور .. دكتور .. يا حسرة قلبي راح الدكتور يا لينا راح الدكتور .. راح الدكتور."
للمزيد حول مركز معا الثقافي وأنشطته ودوراته استمع إلى برنامج صبحية على راديو الآن الذي خصص حلقة للموضوع على الرابط التالي:
معاً في إدلب وجبل الزاوية بدنا نكمل باللي بقيو