أخبار الآن I تونس،30 ابريل 2014-
لم تكن السياسة يوما حكرا على الرجال، ولذلك فإن السجون السياسية لم تكن هي أيضا يوما حكرا على الرجال في تونس. النساء عرفن السّجون والقمع والتوقيف في عهد بن علي. عددهنّ حسب توقّعات جمعية نساء تونسيات يناهز الألف سجينة، لكنّ الملفّات التي في حوزتهنّ لـ 275 سجينة فقط، ومازال البحث متواصلا عن بقية الحالات.
تكفّلت هذه الجمعية منذ مدة بملفات سجينات الرأي في عهدي الرئيس السابق الحبيب بورقيبة والرئيس المخلوع بن علي، على اعتبار أنهن مناضلات عانين ويلات القمع والاستبداد، الذي لم يتوقّف بتركهنّ للزنازين، بل تواصل من خلال سياسة الإقصاء التي تابعتهنّ في العمل والدراسة، والمعاناة اللتي عشنها حتى في اختيارهنّ لأزواجهنّ “كنّا مطالبات بتعريف تفصيلي لمن سيكون زوج المستقبل” حسب السجينة السابقة نجاة عيشاوي التي كانت هدية زواجها تعليقها وزوجها عراة من الأرجل بعد شهر من الزواج وهي الجملة التي قالها السجان بالحرف الواحد “هذه هدية زواجكما”، وغالبا ما كان هذا الزوج سجينا سياسيا.
لكن هذه الملفات التي لا تُقبل من الجمعية إلا عند الاستظهار بورقة العفو التشريعي العام الذي شمل جميع سجناء الرأي بعد ثورة 14 يناير، هذه الملفات لم تخصّ سوى سجينات التيار الإسلامي، وهو ما أثار انتباهنا على اعتبار وجود مناضلات كثيرات من التيارات اليسارية في العقود الماضية ممّن عشن تجربة السجون. وبالفعل كان أول سؤال طرحته على رئيسة الجمعية حال دخولي للمقرّ، حين رأيت لباس الجالسات (الحجاب): “ألا يوجد سجينة من التيار اليساري؟”، فكان ردها واضحا: “قمنا بحملة إعلامية كبيرة لتجميع أكبر عدد من الملفات وفتحها، ومازلنا ننتظر، ولحد الآن لم يصلنا سوى ملفات سجينات التيار الإسلامي”.
كان لابدّ إذن لاستكمال التحقيق، من البحث بأنفسنا عن سجينات التيار اليساري وسؤالهنّ عن هذه المسألة بالذات، فأجابتني نجوى الرزقي “لم أرَ أبدا أي إعلان إعلاميّ عمّا يخصّ السجينات السياسيات، ولم تتعامل معنا جمعية نساء تونسيات نهائيا، وعندما شاهدت في التلفزة تقريرا عن الجمعية استأت كثيرا لأن سجينات التيار الإسلامي فقط هنّ اللوات تحدثن عن تجربتهنّ”.
” وكالة أخبار المرأة ” فتحت هذا الملف الشائك وبدأت الإعلامية الثريا رمضان مديرة تحرير الوكالة رحلتها مع تجارب السجينات التي، وإن كنّا سمعنا من قبل عن ما مررن به، إلاّ أن السمع ليس مثل الرؤيا، فرؤيتهنّ يتحدّثن بشكل من القهر، أو التحدّي أو حتى استبطان الغضب على ما حصل لهنّ، يجعل الحديث أعمق بكثير وأقرب.
سياسة العقاب الجماعي بسبب رأي الفرد الواحد
البداية كانت داخل مقرّ الجمعية، حيث كان لنا لقاء مع رئيستها ابتهال عبد اللطيف، التي نظمت لنا جلسة مع مجموعة من السجينات. الحديث كان شيّقا، فلكلّ واحدة من الجالسات حكاية تستحقّ أن تكتب، خاصّة وأنّ نادية بن عمر حين بدأت تتحدّث لم تختف الإبتسامة من ثغرها، لكنها كانت ابتسامة حرقة برزت في نظرة عينيها، وذلك على ما حصل لها ولعائلتها. “كنت ألعب مع أختي حين تمّ توقيفي، وكانت التهمة بالنسبة إلى فتاة مثلي سنّها لم يتعدّ 13 ربيعا، الانتماء إلى جمعية غير مرخّص فيها”. لم يكن من السهل على سجينة سابقة أن تتحدّث عن تجربتها، مع تهمة تمسّ أمن الدولة، وبالتالي يكون التحقيق من طرف أجهزة أمن الدولة، والتعامل مع المحقّق معهنّ بشكل مختلف عن نظم التحقيق العادية. نادية بن عمر تحدّثت بشجاعة كبيرة عن ما مرّت به رغم أن مزيجا من الأمل واليأس كانا واضحين في خطابها، وربّما يعود هذا التناقض في المشاعر إلى مدى قسوة ما مرّت به.
“أختي كان عمرها حينها 18 سنة وكانت تنظم حلقات دينية مضيقة وكنت أحب الانضمام إليها”. جمعت هذه الحلقات 200 امرأة كنّ ينقدن الأحوال السياسية في البلاد “بشكل غير رسمي”، وتضيف نادية “وكنت أتمتّع بحيوية ونشاط كبيرين لذلك كنت أقتفي أثر الكبار وكنت سعيدة جدا بذلك”. التوقيف شمل الأم ونادية وأختيها، أما الأخ فلقد تمكّن من الهروب بطريقة غير شرعية (حْرَقْ) إلى إيطاليا. بقي على الأب أن يجلب لرجال أمن الدولة ابنته المتزوجة أيضا، لكنّه من خوفه عليها، حسب قول نادية، أخذها بدا ذلك إلى مستشفى الأمراض العقلية “الرازي” أملا في تخليصها من التوقيف. تواصل نادية قائلة “عندما استفز أختي العاملون بالمستشفى، شتمت بن علي، فكان أن ضربوها ثمّ حقنوها بحقنة جعلتها ساكنة لمدّة طويلة، وغادرت المكان وقد تأثّر عقلها بالفعل. بعد فترة قامت أختي بإضراب جوع ردّا على ما حصل لعائلتنا، لكن أبي كان خائفا جدا من موقف أمن الدولة فقرّر أن يعيدها إلى مستشفى “الرازي”، وهنا تصف نادية الحادثة بالتدقيق “لم تكد أختي تدخل المستشفى حتى أمسكوا بها من شعرها وضربوها حتى كسروا عظام حوضها، مما أدّى إلى فلق رئتيها وتوفيت في مستشفى العظام الذي نقلت إليه بعد الحادثة”.
حكاية نادية وعائلتها لم تتوقف هنا، بل إن السلطات قامت بقطع الماء والكهرباء عنهم، فحفروا بئرا داخل المنزل وكانوا يشربون مياة معفرة بالتراب. قطعت كل سبل الحياة في وجوههم، فكانت أمهم تجمع فضلات الأكل من القمامة، وكان الرجل الذي أصبح زوجها اليوم، يجلب لهم أحيانا بعض الأكل. كانت “الظروف المادية مأساوية” حسب نادية، وتواصلت مع قرار أختها أن تتزوج من فرنسي، وكانت الكارثة. أعيد فتح ملف العائلة وتمّ تهديدهم بالسجن من جديد إن تمّت هذه الزيجة، لكن ما أنقذ الأمر هو تدخل المنظمات الحقوقية في المسألة حتى تمكن كافّة أفراد العائلة من الحصول على جوازات سفر. اليوم نادية تريد فتح تحقيق في موضوع مقتل أختها.