دمشق، سوريا، (سيف الدين محمد، أخبار الآن) – لم تخرج مقاهي مدينة دمشق عن مثيلاتها في المدن والعواصم العربية الكبرى كالقاهرة وبغداد وبيروت، وكذلك تقسيماتها إلى شعبية أو نخبوية أو متوسطة، لاسيما حين تكون البلاد تعيش حال من الحرب والأزمات.
تبدو المقاهي وكأنها ضمير الأنا السورية حين تقال على لسان مرتاديها، فالأحداث اليومية وآثارها الاجتماعية والاقتصادية هي جلّ ما يميّز فضاء الكلام في تلك الأماكن. بقيت المقاهي متنفساً للخروج من ضغوط البيت ومن الازدحام المرعب الذي تعيشه مدينة دمشق بسبب من النزوح الهائل إليها من الريف ومن المدن الأخرى. ويكفي أن تجلس إلى مجموعة رجال يلعبون النرد أو يتناولون النرجيلة حتى تدخل في حديث الوضع الاقتصادي المتدهور مخفياً خلفه الموقف مما يجري على الصعيد السياسي والعسكري دون التصريح مباشرة إلا في بعض الحالات التي تكون على معرفة بها.
تتوزع أهم المقاهي في دمشق في وسط البلد، فهاهنا (مقهى الكمال) الشهير في شارع البرازيل الذي يغص برجال وشباب الطبقات الفقيرة والمتوسطة ورخص أسعار طلبات المشروبات فيه بما يتناسب مع الوضع الاقتصادي المتدهور. تجلس عنوة مع مجموعة من الرجال الستينيين فيستقبلونك بمودة، وعلى وقع حجر النرد يجري حديث عن دمشق أيام زمان وعن مدينة تتآكل وتغيرت ملامحها: “الله يرحم أيام القوتلي شكري بك” جملة من أحد الجالسين تختصر عدم الرضا عن رئيس اليوم وعن نظام ألغى خصوصية رأي المواطن، فيرد عليه آخر: “إيه، آخر أيامك يا مشمش” وهذه جملة شهيرة كانت تقال حين يتم خلع رئيس عن طريق انقلاب أيام الخمسينيات في دمشق. وفيما تبقى فأنت أمام نشرة متكررة لأسعار المواد الاستهلاكية المتزايدة كل يوم.
الأمر يختلف في (مقهى الهافانا) على بعد أمتار، فهناك سطوة أمنية وحاجز للجيش مقابله وأفراد بلباس عسكري يتناولون الشاي والنرجيلة مما أدى إلى ابتعاد المرتادين عنه، ناهيك عن ثمن المشروبات الغالي لديه، وهو المقهى الذي يبدو وكأنه محسوب على الأمن ويقال أن هناك أجهزة تنصت فيه.
وغير بعيد عنهما تجد (مقهى الشرق الأوسط) المطلّ على ساحة المرجة ومقاهيها الشعبية، وهو طالما احتضن فقراء الضواحي في دمشق من طلاب ومدرسين وموظفين. يقول (م.خ) وهو مدرس للتاريخ: “كان المقهى سابقاً مساحة لقاء الأصدقاء والحديث في شؤون الوظيفة وأحداث البلد أما اليوم فإن مجرد الحديث في السياسة يدفع الوجوه إلى التحديق بك اللهم إلا من يتحدث كموال للنظام وبصوت مسموع دون اكتراث بآراء الآخرين”.
ومقابل البرلمان في شارع العابد ترى (مقهى الروضة) الذي تم تحويله إلى مقهى تحت السيطرة بعد أن كان لزمن خلا ملتقى المثقفين والفنانين والناشطين على اختلاف مشاربهم، وهو ما تسعى إليه سلطات الرقابة من تفريغ لأي تجمع ثقافي أو شبابي، فليس هناك سوى المباريات الرياضية والأغاني الراقصة والمرتادين غير المكترثين بما يجري داخل البلد. وهو الأمر المشابه لمقهى (رويال) القريب من فندق الشام الشهير.
سعت السلطات الأمنية إلى مراقبة حركة الشباب بشكل خاص ولاحقتهم إلى المقاهي، وهو الأمر الذي حدث بوجه خاص في سلسلة مقاهي منطقة ساروجة التي غصت بالناشطين الشباب في الثورة وتمت حملات مداهمات أكثر من مرة اعتقل على إثرها عشرات الناشطين من الشباب والشابات الذين لا يزال بعضهم قيد الاعتقال حتى اللحظة، ونجحت السطوة الأمنية في تفريغ تلك المقاهي من مرتاديها الشباب وحولتها إلى أماكن تجمّع للشبيحة واللجان الشعبية وباتت شبه فارغة في كل الأوقات.
يقول الناشط الإعلامي (ع.د): “اكتشفنا أن هناك خلية من الأمن مزروعة في كل مكان، فقد أخلى الناشطون أماكنهم بعد أن كانت تغص بنخبة من العاملين في الثورة والتي أخرجت مشاريع مهمة أثناء تلك اللقاءات. الآن نفضّل اللقاء العابر في الشوارع العامة، فلا يوجد مكان في دمشق تستطيع أن تشعر فيه بالأمان بعيداً عن أعين السلطات والرقابة”.
أما مقهى (Pages Cafe) في ساحة النجمة فهو يعد حالة منفردة في غياب سلطات الأمن عنه بسبب مرتاديه من شباب ورجال الفن والأدب المحسوبين عموما على تيار هيئة التنسيق، وهو ما تلمسه حين تسمع أي نقاش يدور ضمن مساحة مكانية ضيقة، ناهيك عن أن ثمن مشروب واحد فيه يكفي لمعيشة عائلة نازحة لمدة يوم أو اثنين.
تقول (ع.س) وهي موظفة في وزارة الثقافة: “أكره المجيء إلى هنا فكل الكلام يسطح الثورة ويبسط من حال العنف الدائر إلى مجرد تنظير ممن يدعون العقلانية كنخبة مثقفين وكتاب، إضافة إلى أنني لست قادرة أن أدفع 350 ليرة ثمن فنجان صغير من القهوة”.