وثائقيات – نار الفتنة 21-3-2019
سفيان.. شابٌ عراقي أيزيدي حالفتهُ الحياةُ مرةً ثانية حين قُدر له الهربُ من براثن داعش والعودةُ إلى حضن عائلتِه. أربعُ سنين كاملة قضاها سفيان أسيرا ومجندا رغما عنه في قبضة داعش، خسِر خلالها ساقَه اليمنى وجزءا كبيرا من روحه. منذ عودته من الأسر، يعيش سفيان في شبه عُزلةٍ اختيارية. فباستثناء الجلوسِ طوال الوقت في المنزل، يتردد على بستان الزيتون الذي تملكُه العائلة، ويجلس وحيدا، بعيدا عن الآخرين..
نجاتُه من الموت قتلا على يد داعش أعجوبة. فحين اعتقلَه مسلحو داعش مع أخيه وعشراتٍ من أقاربه صيف ألفين وأربعة عشر، اعتبروه صبيا لم يبلغْ الحلُم. وبالرغم من كونه طفلا، لم يمنعْهم ذلك من زجه في معسكراتِ التدريب الداعشية داخل الأراضي السورية، ثم تحويلُه لاحقا لمقاتلٍ في الصفوف الأمامية خلال معارك داعش في سوريا والعراق.
من مبنى دائرةِ النفوسِ في سنجار، نُقل سفيان مع أخيه وباقي النساءِ والأطفال إلى سجن بادوش الشهير في مدينة الموصل التي سماها داعش عاصمةً لخلافتِه المزعومة. هناك، قضى سفيان مع باقي الأسرى قرابةَ أسبوعين قبل أن يتمَ نقلُهم إلى مدينة تلعفر. وفي تلعفر، بدأ فصلٌ جديد من حياة سفيان وباقي الأسرى الأيزيديين. ففيها انتزع داعش ألافَ الأسيرات الإيزيديات من عائلاتِهن وحوّلهُّن سبايا ينقلهُن بين القرى والبلدات حيث شاء مسلحوه.
لم يُعرف حتى اليوم مصيرُ قرابةَ ألفِ رجل أيزيدي نقلهم داعش في الشاحنات في ذلك اليوم. تشير التقارير الدوليةُ والشهادات ُ المتوفرة إلى أن معظمَهم قتل ودفن في مقابرَ جماعية. أما سفيان وباقي الأطفال الأيزيديين، فقد انتزعوا من عائلاتِهم بالقوة ونقلوا إلى منازلَ منفصلةٍ كرهائن، لضمان عدم هربِ أهاليهم من تلعفر. واجه سفيان مرحلةً جديدة من حياته تحت ظل داعش بعد أن أخذوه بعيدا عن أخيه وباقي الأطفال في منزل تلعفر. فقد اُعتبر يومها أنه قد بلغ سنَ الرجولة، ويستوجبُ بالتالي أن يبدأ بتلقي الفكر الداعشي تمهيداً لتحويله مقاتلاً في صفوف التنظيم. أربعُ سنين رأى فيها سفيان أشدَ مما هو مضحكٌ مبكي. كان طفلاً مراهقاً في الرابعةَ عشرة من عمره حين أسره مسلحو داعش. انتُزعَ من عائلته. شاهد القتلَ والسبي وأُجبرَ على درس الفكر المتطرفِ والتدريب العسكري، وزُج به في جبهات قتالٍ قبل أن يتمكن من طلب النجدة ويعودَ شاباً مبتورَ الساق.
تقول عائلتُه إنه يقضي الكثيرَ من الوقت في التجوال داخل أزقةِ قريتِه الصغيرة، كلما أثقلت عليه ذكرياتُ الأسر. فحين صورنا معه كان قد عاد قبل خمسةِ أشهرٍ فقط، وما يزال كلُ شيءٍ عالقا في ذاكرته. عادت عائلة سفيان إلى قرية كري جامعي ربيعَ عام ألفين وثمانيةَ عشر. والقريةُ كباقي قرى جنوبَ جبلِ سنجار ما زالت غير منظفة من الألغام. لكن السكان القلائل الذين عادوا، فعلوا ذلك على مسؤوليتهم بعد أن أرهقتهم حياةُ النزوح في المخيمات.
يستذكر سفيان مع قناة الآن قصتَهُ مع تنظيم داعش. بدا أكثرَ استرخاءً وشعورا بالمرح وهو يستعيد أيام محاولتِه ورفاقه الهربَ من قبضة داعش. قبيل تنفيذِهم خطةَ الهرب بساعات، وشى بهم أحدُهم وتم اعتقالُهم ليواجهوا محكمةً قضت بتعذيبهم وإلباسهم زي المحكومين بالإعدام عند داعش، الزي الأصفرَ اللون. لكن كتبت لهم النجاة.
رافق سفيان مسؤولَ الاستخبارات الداعشي أبو حسن قرداش إلى الموصل وتنقل معه ما بينها وبين وتلعفر وسنجار. بعد فترة قرر قرداش إرسالَه لمعسكراتِ التدريب في سوريا ليصبح جاهزاً للقتال في صفوف داعش. وفي معسكرات الطبقة وحماة والرقة التي تنقل بينها، تلقى سفيان تدريباتٍ بدنيةٍ وعسكرية. توعد تنظيم داعش في العديد من إصداراته بتحويل المجندينَ الأيزيديين الى مقاتلين ضد آبائهم وإخوانهم في الداخل العراقي. وهذا تماما ما حصل في المعارك التي خاضها ضد القوات ِالعراقية والأيزيدية في مناطق البعاج وسنجار وتلعفر، وخسرَها تباعاً. سفيان كان يعرفُ جيدا أنه ورفاقَه المجندين الأيزيديين لم يكونوا سوى دروعاً بشرية يدفع بها داعش في الخطوط الأمامية. فموتُ أيٍ منهم لم يعتبرْه داعش خسارة.
توقف سفيان عن رواية قصتِه حين انهمرت الأمطار فجأة في السهل الجنوبي لجبل سنجار. بدا مرحا وقد استعاد بعضاً من حيويته ونشاطِه وهو يشارك فريق قناة الآن الاختباءَ تحت أشجار الزيتون. وسط ذكرياتِ الألمِ ينبتُ الأملُ فيزهرَ ابتسامةً على وجه سفيان..