ملك الجن شمهروش يفض النزاعات في المغرب
محكمة للفصل في نزاعات الإنس والعالم الآخر.. يرأسها قاضٍ خارق فريد من نوعه، قاضٍ بلا عباءة أو وشاح أخضر، لا ينظر في دفوع ولا يراجع أدلة ولا يستمع إلى مرافعات.
قاضٍ برتبة ملك ولكن ليس بأي ملك بل ملك ملوك الجان.. إنه ”سيدي شمهروش“، أحد ملوك الجن السبعة، والمختص بفض النزاعات التي تنشُب بين ذويه وغيرهم من الإنس.
على طريق جبل توبقال، وهو أهم وأشهر قمة في سلسلة جبال الأطلس، تسكن قبيلة ”آيت ميزان“، وهي قبيلة تكسب رزقها من زراعة الحبوب وأشجار التفاح وتربية الماشية. قبل أن تتبدل حياة أفراد القبيلة تمامًا بوصول ضيف من نوع خاص، اختارهم من بين بني البشر ليتخذ من أرضهم مقامًا له.. إنه ”سيدي شمهروش“.
بدأت القصة عندما فوجئ أحد أفراد قبيلة ”آيت ميزان“ يدعى موسى بن إدريس بكلب أسود يتردد على منزله.. ومكث عنده سبعة أيام، ظل موسى خلالها يعتني بالكلب ويرعاه، ولكن ما أثار دهشته أن الكلب كان يرفض الطعام، ولا يروق له النوم إلا في الإسطبل الذي ينام فيه حصان موسى.
قرر موسى أن يراقب هذا الضيف الغريب، وفي ذات ليلة، رأى مشهدًا لم ينسه أبدًا، إذ لمح الكلب راكبًا الحصان.. متجهًا به إلى غارٍ قريب، ليقابل عددًا من بني جنسه ويلهو معهم قليلًا قبل أن يتفرقوا.
بعد أن رأى موسى هذا المشهد المخيف.. طلب من الكلب أن يكشف له عن حقيقته، فما كان منه إلا أن غادر هيئته الحيوانية وتجلّى له بلباس الملك وتاجه، وأخبره أنه شمهروش.. ملك الجان.
وبعد أن أفصح له عن حقيقته، طلب شمهروش من موسى أن يدعو قبيلته، وأخبرهم بما يتحتم عليهم فعله، إذ طلب منهم التضحية بذبيحة في الليلة ذاتها.. علي أن يتم ذلك في المقام الذي جمعه بأصحابه منذ قليل. قبل أن يصطحبهم إلى مكان أعلى ويخبرهم أنه مقامه الذي اختاره.
وأمر ”سيدي شمهروش“ أفراد القبيلة وبقية القبائل التي تقيم في هذه المنطقة أن جميع الذبائح التي سيتم نحرها أمام مقامه يجب أن توزّع على الفقراء والأغنياء، بينما ستعود جلود الذبائح ورؤوسها إلى مضيفه موسى وأولاده، كما أعلن لهم أن موسى بن إدريس هو وريثه، جزاءً له على حسن ضيافته طوال سبعة أيام.
ترسّخت هذه القصة الأسطورية في أذهان الناس وتوارثتها الأجيال في هذه المنطقة على طريق جبل توبقال، حتى صار مقام ”سيدي شمهروش“ واحدًا من الأماكن التي يحج إليها الناس من شتى أنحاء الأرض، لتقديم القرابين والشكوى لملك الجان من أفعال ذويه وقبيلته، حتى يفرض أحكامه وينصف المظلومين وينقذهم من جحيم المسّ.
فكيف يذهب الناس إلى هذا المقام.. وما هي طقوس المحاكمة الفريدة من نوعها؟
انطلاقًا من أرمِد، وهو آخر دوار على رأس وادي ”آيت ميزان“ بالمغرب، ينبغي أن تسير ساعة كاملة حتى تصل إلى المقام الواقع على ارتفاع يبلغ 2300 متر.
ولأن الطريق المؤدية إلى مقام ”سيدي شمهروش“ وعرة للغاية ولا تصل إليها وسائل النقل الحديثة، يعتمد الزوار في الوصول إلى هناك على البغال التي يستأجرونها من سكان المنطقة.
طرق وعرة للوصول إلى محكمة ملك الجن شمهروش
وقبل الوصول إلى المقام.. يعبر الزوار نهرًا، ثم يسيرون في ممر ضيق تتوزع على جانبيه دكاكين صغيرة، بينما ترفرف فوق رؤوسهم أسراب الغربان التي يتردد صدى نعيقها بقوة لتُصبِغ على المكان أجواءً مرعبة.
وبمجرد الوصول إلى مكان المقام، ستجد غرفتين صغيرتين مخصصتين للاغتسال، واحدة للرجال والأخرى للنساء، بينما تتناثر الشموع التي أوقدها الزوار هنا وهناك، وترفرف الأعلام البيضاء والخضراء فوق صخرة كبيرة. وهنا فقط.. تعلم أنك قد وصلت إلى مكان المحاكمة.
وفي يوم الخميس من كل أسبوع، وهو اليوم المخصص لشمهروش من بين أيام الأسبوع التي تتوزع بالعدل على ملوك الجن السبعة، تقام المحاكمة الأسطورية. يتربع شمهروش على عرشه، ويبدأ في ممارسة مهامه بالفصل في نزاعات الجن والإنس.
يصل أصحاب الشكاوى من بني الإنس إلى المقام في يوم الخميس، ويرفعوا قضيتهم إلى القاضي الأعلى شمهروش.. يشكون إليه من بني جنسه الذين قاموا بمسّهم بغير وجه حق، وأحالوا حياتهم إلى جحيم وعذاب أليم.
وتقول الأساطير والحكايات الشعبية أنه بمجرد دخول الممسوس إلى مقام شمهروش، ينعقد لسانه ويتحدث الجن الذي يسكن جسده بدلًا منه، ثم يتمرغ في الأرض أمام ملك ملوك الجان، قبل أن تبرُق السماء إعلانًا لبداية المحاكمة.
وتمتد هذه المحاكمة لثلاثة أيام في بعض الأحيان .. يقيم خلالها الممسوس في أحد البيوت الصغيرة المنتشرة حول المقام.. ويقوم بتقديم الذبائح والقرابين والعطايا لحين تخلّصه من المسّ.. قبل أن يُسمح له بالرحيل.
وتتضارب الروايات والأقاويل حول هذه المحاكمة الغريبة والفريدة، فهناك من يرى أنها مجرد خرافات يروّج لها سكان هذه المنطقة الجبلية الذين يكسبون رزقهم من توافد الزوار على المكان، ويقتسمون الذبائح والقرابين فيما بينهم، كما يقومون بتأجير البغال كوسيلة النقل الوحيدة بالمنطقة.
في حين لايزال يؤمن الكثيرون بصحة الأمر، ويعتقدون اعتقادًا راسخًا بأن هذه المحاكمة هي الطريق الأمثل للتخلص من المسّ والسحر والأعمال الشريرة، ويرفضون مجرد مناقشة الأمر باعتباره من المسلّمات التي لا يجوز التشكيك بها.