عدد قليل من الجمهور ودعها إلى مثواها الأخير، ولم يكلف أي من نجوم السينما الكبار أو الصغار نفسه عناء المشي في جنازتها ولو من باب الثواب!
واحد وثمانون عاما عاشتها مريم فخر الدين بين الناس شخصية عادية ونجمة سينمائية كبيرة لم تشفع لها، مضت وحيدة نحو الدار الآخرة، معطية المثل في جحود الوسط الفني ونكران أهله.
انزوت الراحلة منذ ما يقرب من عشرين عاما فطوى سيرتها النسيان، وتحولت قبل أن تغادر الدنيا إلى ذكرى ورائحة من زمن فات يختلف عليه من يختلف ويتفق من يتفق على أنه كان زمنا فارقا في معناه ومضمونه وناسه الطيبين.
المهم أن الفنانة القديرة كانت أحد ملامحه، فقد عكست بفنها طبيعة المرحلة الزمنية، التي أشير فيها إليها كفنانة جميلة رقيقة شديدة الرومانسية ظلت أربعين عاما أو يزيد تحت الأضواء تنافس نجمات جيلها في فترتي الخمسينيات والستينيات مثل فاتن حمامة، التي تقاسمت معها البطولة في فيلم «لا أنام» أمام عمر الشريف ويحيى شاهين، وأيضا مديحة يسري ونادية لطفي وسعاد حسني وزبيدة ثروت ومديحة يسري وأخريات كانت لهن الحظوة في العصر الذهبي للسينما المصرية.
وقد شاركت مريم كبار النجوم في بطولات الأفلام، من بينهم شكري سرحان في فيلم «رد قلبي»، حيث جسدت دور انجي ابنة الباشا محبوبة على ويكا إبن الجنايني، وهو دورها التاريخي الذي وضعها في مصاف نجمات الشباك وربطها بالأدوار الرومانسية.
لعبت الفنانة القديرة أيضا دورا متميزا في فيلم «حكاية حب» مع المطرب الراحل عبد الحليم حافظ فصعدت أسهمها كفنانة رومانسية تتمتع بقبول لدى الجمهور المصري والعربي على السواء. وعلى أثر ما تحقق من نجاح باتت الفنانة رمزا للعواطف النبيلة والحب العذري، وبعد فترة تمرست على التمثيل وخرجت نسبيا من أدوارها الرومانسية الرقيقة التي كثيرا ما كررتها مع عماد حمدي ورشدي أباظة ونجوم الصف الأول، وقد وضح الاختلاف في أدوارها إبان فترة السبعينيات بعد تحولها من ادوار الحبيبة إلى أدوار الأم وهي نقلة نوعية أكدت موهبتها ونفت عنها تهمة الثبات عند نمط أدائي واحد.
لعبت مريم فخر الدين دور الأم الارستقراطية المنفتحة على عوالم الموضة والشياكة والسهرات والحفلات في أفلام كثيرة، أهمها «حافية على جسر الذهب»، حيث كانت أما لميرفت أمين تخشى السلطة وتقدم ابنتها قربانا لعادل أدهم الرجل القوي.
كذلك أدت الشخصية الأقرب لهذا النمط في فيلم «بئر الحرمان»، إذ مثلت باقتدار دور أم للفنانة سعاد حسني، ومثلما ارتبطت بها شخصية الفتاة الرومانسية في فترة شبابها التصق بها دور الأم الجميلة فكررته مع صلاح منصور وصلاح نظمي، وربما ساعدها هذا التطويع لموهبتها على الاستمرار في الصدارة حتى وقت قريب جدا، فهي لم تنكر سنها ولم تتصابى، ولكنها عاشت مراحلها الفنية كلها متسقة مع نفسها وواقعها، وما يدل على ذلك أنها قبلت أن تقدم دور امرأة سيئة السمعة تستغل الفتيات القاصرات في فيلم «النوم في العسل» مع الفنان عادل إمام، ورغم ما أخذ عليها وقتها لقبولها هذا الدور النوعي والصغير، إلا أنها واجهت النقد بشجاعة وصراحة متناهية معترفة أنها لم تعد تمتلك رفاهية الانتقاء والرفض، لأن لكل زمن نجومه ونجماته وهي لا تستطيع أن تعيد عقارب الساعة للوراء.
بهذا الإعتراف اقتربت مريم أكثر من قلوب محبيها ومعجبيها، ولكنها في سياق صراحتها المعتادة والصادمة أحيانا انتقدت النجمات الكبيرات وأخذت عليهن سعيهن وراء الألقاب التي يطلقونها على أنفسهن من باب الدعاية الفجة وإثارة الاهتمام وصناعة بروبغندا زائفة ووصفت الفنانة التي ظلت نجمة ملء السمع والبصر قرابة نصف قرن الظاهرة بأنها محض كذب وخداع وحيل مكشوفة للضحك على المراهقين وابتزازهم بالألقاب «الفالصو»مثل «ملكة الإغراء» و»قنبلة» و»نجمة مصرالأولى» وغيرها، وقد سببت لها هذه الصراحة أزمة، ولكنها لم تعبأ بردود الأفعال وظلت على موقفها الرافض للمتاجرة بالموهبة دون النظر للقيمة الحقيقية للمضمون الإبداعي.
رحلت مريم فخر الدين في هدوء يتناسب مع هدوئها لم تكترث لشيء ولم تلق بالا لما تركته وراءها من حكايات وقصص وألغاز وأسرار ماتت وهي زاهدة متسائلة عن معنى الحياة التي يعيش فيها الإنسان محاطا بالمعجبين والأضواء، ثم يتركها بمفرده دون أن يودعه أحد الوداع الأخير اللائق.