بدم بارد وقبل ظهور ما يعرف بتسريبات قيصر، اخبروا والدته بانه مات داخل احد الافرع الامنية بالعاصمة السورية دمشق، القصة الكاملة لاعتقال أيهم غزول، الطبيب السوري المعتقل الذي وافته المنية جراء توقف قلبه وانقطاع نفسه وفق الجهات الامنية الرسمية التابعة لنظام الأسد العام 2012، وذلك على لسان والدته في مقالبة خاصة مع “أخبار الآن”، والتي عرفت بنفسها في بداية حديثها، انا مريم الحلاق، سورية من ريف دمشق، كنت معلمة ومديرة مدرسة لمدة 25 سنة، وعندي ثلاثة شبان، والأصغر بينهم الذي انجبته على اساس انه “فتاة” بعد مرور 13 عام، ايهم الذي جاء ومر علينا مرورا سريع.
بداية قصة اعتقال ايهم غزول
وقالت مريم الحلاق: “كان عمره 25 عام، اعتقل المرة الأولى والثانية استشهد فيها، ونزحنا طبعاً وهجرنا من مدينتنا مدينة حرستا التي هي ضمن غوطة دمشق، الى بيت اخي في دمشق وكنا اربع عائلات هجرنا جميعاً من بيوتنا.
واضافت والدة ايهم: “كان ايهم معتقل، اعتقل وهو طبيب اسنان يستعد لرسالة الماجستير، طبعا شارك في التظاهرات وكان ياخذ دورات عن العدالة الانتقالية، وبدأ بـ”المركز السوري للاعلام وحرية التعبير” لتوثيق الانتهاكات والشهداء الذين كانو يتساقطون اثناء التظاهرات، الشباب المدني السلمي الذين خرجوا يهتفون بالحرية، وكان الامن والجيش يطلقون عليهم الرصاص الحي، وكان في كل مظاهرة عدة شهداء، وكان يشتغل بتوثيق الانتهاكات وتم اعتقال جميع من في المركز”.
وأوضحت الأم المكلومة قائلة: “المركز مديره مازن درويش وكانت زوجته بالاضافة 8 شبان و5 صبايا تم اعتقالهم من قبل فرع “الجوية” وبقي ايهم ثلاثة اشهر، وخرج ايضا 3 شبان وخمس صبايا بعد مرور ثلاث اشهر من اعتقالهم وكان المعتقلين مكثوا من 30 الى 32 يوم في فرع “الجوية” ومن ثم تم نقلهم الى “الفرقة الرابعة” التابعة لماهر الاسد وهناك تم تعذيب ايهم كثيرا وفق اقوال رفاقه خصوصا وانه كان يتعرض للضرب يوميا ويعود لرفاقه بجرحين مفتوحين ويستغربون كيف كان يتحمل، وكان يتعرض ايهم للتعذيب كثيرا لسببين “لانه طبيب ولانه من مدينة موالية للاسد”.
وأضافت: “اثناء المظاهرات كان ايهم حذر جداً، ولم تكن المظاهرات سبباً في اعتقاله، وسبب اعتقاله هو توثيق الانتهاكات بالمركز السوري للاعلام وحرية التعبير، تم تعذيبه بكافة الوسائل بحيث كان عنده نزيف بالكليتين بعد خروجه الأول من المعتقل، واستمر النزف حتى اعتقاله الثاني واستشهاده”.
وأكّدت الحلاق: “الجميع يعرف سبل التعذيب داخل المعتقلات السورية مثل (شبح وضرب الكهرباء والتجويع) وكان أيهم فقد من وزنه خلال الاشهر الثلاثة الاولى في المعتقل نحو 15 كيلو غراماً، خرج بعدها وباشر عمله ودراسته”.
غرفة تعذيب في جامعة دمشق والقائمون عليها من الطلبة
وقالت مريم الحلاق لـ”أخبار الآن“: “اثناء تلك الفترة، بدا أيهم بالعمل على نفسه من أجل سوريا المستقبل وذهب لحضور ورشات عمل عن العدالة الإنتقالية في بيروت وحضر ثلاث ورشات وبعد الورشة الأخيرة عاد لسوريا ليلاً، وفي اليوم التالي صباحاً توجه إلى جامعة دمشق وهناك تم اعتقاله وتعذيبه من قبل طلاب “اتحاد الطلبة السوريين”، وهم منتخبين من قبل الطلاب وعملهم الاساسي الدفاع عن الطلاب ولكنهم تحوّلوا الى فرع امن وهم الذين كانوا يعتقلوا الطلاب ويعذبونهم، وقاموا بتعذبيه بكلية الطب البشري بالجامعة وهم قاموا بانشاء غرفة إدارية حولوها لمعتقل وبداخلها اداوت تعذيب، وبعدها اخذوه برفقة شاب اسمه محمد الى سرية المداهمة تابعة للامن العسكري “215” ومن المعروف عنها أنّه من النادر على من دخلها أن يخرج حيّاً”.
رحلة العذاب بين أفرع النظام الامنية لمعرفة مصير أيهم
وأوضافت والدة أيهم لـ”أخبار الآن“: “بعدما تمّ أخذهم، علمت بأنّه تمّ اعتقالهم، ومباشرة توجهت للفرع الأمني “215” المعروف بأنّ من يتمّ اعتقالهم في جامعة دمشق يتم نقلهم إليه… لكنّهم أنكروا وجوده وبقيت نحو ثلاثة أشهر ابحث عن ايهم واين يمكن ان يكون وعن اخباره، وبعد 3 اشهر خرج رفيقه محمد من المعتقل وأخبرنا بأنّ أيهم وافته المنية بعد خمسة ايام من اعتقاله، وانه كان في غيبوبة ورفض السجانون اسعافه، وكان من بين المعتقلين طبيب ولاحظ ان جسم ايهم اخذ يزرق، ونادى للسجان بان هناك شاب بحاجة الى مستشفى واخبره السجان عندما يموت اخبرونا بذلك. وفعلا بعد خمسة ايام كان الشاب محمد يضع رأس أيهم على قدمه، ولمس جسده فوجده بارداً، واخبر السجانين بذلك وحضر الطبيب الذي تاكد من وفاته ووضع له لصاقة على جبينه تحمل الرقم “320” ولفوه ببطانية واخرجوه.
وتابعت: “أقمنا لأيهم عزاء، وبعد ذلك بـ 10 أيّام خرج أحد الشباب من المعتقل وادّعى بأنّ أيهم على قيد الحياة وانه شاهده، وهنا بدأت لدي مرحلة جديدة وهي معرفة الحقيقة، وحوالى سنة وخمسة اشهر وبشكل يومي ولا ابالغ باستثناء ايام العطل، كنت اتوجه للقضاء العسكري والشرطة العسكرية ووزارة الداخلية ولجان المصالحة ووزارة المصالحة، وكل مكان يمكن ان اتاكد من خلاله ان ايهم حي ام ميت، وبعد ذلك تم اعطائي شهادة وفاة لايهم بعد مرور خمسة ايام على اعتقاله جراء توقف قلبه وتنفسه، وخلال تلك الفترة كنت التقي يوميا مع سيدات امهات بين الخمسين والستين من العمر وهناك ايضا بعض الزوجات والاباء لكن الغالبية كانوا من الامهات، وحاولت عمل شيء مثل وقفة او نصدر بيان لكن الجميع رفض ذلك لاننا “نعيش في رعب، خمسين عام تحت الخوف والظلم”، فدائما في عندنا مقوله مشهورة بين السوريين “الحيطان الها اذان” ولا يستطيع اي احد الحديث باي كلام مع اخوه او ابوه، حتى في البيت تشعر بان هناك احد في البيت يراقبك. وكان الامن جدا مسيطر وكنت اقول بان الامن يسيطر على تنفسنا. وكان هذا الخوف يدفع الامهات للقول “راح واحد خلي الثاني، اغتصبت البنت خلي الاخ، قتل الاب خلي البيت”، وبعد تلك الفترة وحصولي على شهادة الوفاة، بقيت حوالى ستة اشهر ايضا اتنقل بين القضاء العسكري والشرطة العسكرية وفروع الامن لمعرفة اين دفن ايهم واين هي اغراضه الشخصية. وبالطبع في البداية عندما اسال عن ايهم واصبحت معروفة لديهم لانني بشكل يومي اتوجه اليهم، وعندما اسالهم يستاؤون من ذلك ويجيبون “ما حد فقد ابنه وما حد مات ابنه” واستغرب انا السؤال خصوصاً أنّني أم وابحث عن ابني ولا اريد ان ابرر لاحد ماذا أفعل.
المضايقات التي تعرضت لها والدة ايهم من قبل نظام الأسد خلال بحثها عنه
وبخصوص المعاناة والمضايقات التي تعرضت لها مريم الحلاق، أجابت قائلة: “المضايقات الكثيرة التي تعرّضت لها هي عندما توجّهت لفرع الأمن وسألت الشخص المعني هناك، وقال لي: لولا كنتي ست مقدّرة كان دخلتي هون وما طلعتي” (يعني تهديد بالاعتقال). وأيضاً عندما ذهبت لأخذ شهادة الوفاة سألتهم أين دفنتوه، صرخ بوجهي المساعد اسمه علي قائلاً: لا تسألوا… وعندما دخلت إلى الطبابة الشرعية من أجل أخذ الشهادة، كان الشباب القتلى من النظام يضعونهم بتوابيت ويلفونهم بالعلم السوري، وتأتي سيارات لأخذهم، وعندها سألتهم: ليش يعني، هدول شباب سوريين وهدول شباب سوريين، فقال لي الشخص هناك: اطلعي لبرا… لقد استاء القضاء العسكري من قدومي بشكل يومي وسؤالي عن جثة ايهم وأغراضه، وبعد 6 أشهر حصلت على ورقة أخرى من القضاء العسكري مفادها أنّ أيهم توفي في أحد الفروع الأمنية وجثته تحمل الرقم 320، وقال لي القاضي آنذاك خذي هذه الورقة ولا تعودي إلى هنا مرّة اخرى”.
وتابعت: “وبعد ذلك تمّ الاستيلاء على بيت اخي الذي يأوي اربع عائلات من قبل الامن السياسي، من دون أيّ مبررات واخرجونا منه وجعلونا نجلس على الرصيف بكل معنى الكلمة”.
مغادرة مريم الحلاق لسوريا وبداية مشوارها القانوني
وبشأن مغادرة والدة أيهم غزول سوريا، قالت مريم الحلاق: “توجهنا مضطرين إلى لبنان، وهناك أحسست بأنّني قادرة على القيام بشيء، ويمكن أن أوصل أصوات تلك الامهات في سوريا العاجزات عن فعل شيء… ومباشرةً توجّهت إلى المنظمات الدولية التي ترعى حقوق الإنسان مثل (امنيستي وهيومن رايتس ووتش والصليب الأحمر)، ووثّقت حالة أيهم ومن خلالها سلطت الضوء على ما يحدث للشباب في المعتقلات السورية.
وأوضحت قائلة إنّ “ورقة شهادة الوفاة ليست مصداقية، لكن ما جعلني أشعر بصدقها هو توافقها مع تاريخ الوفاة التي ذكرها الشاب محمد، وشهادات الوفاة كانت جميع الاسر تحصل عليها، لكن بعض الشباب عادوا بعد ان اقيم لهم عزاء ما يشير إلى أنّ تلك الشهادات ليست لها مصداقية. ورغم ذلك وبعد توجهي لبيروت ووضعت أملاً بعودته بنسبة خمسة بالمليون ان ايهم قد يعود، وتركت أخباراً عند اخوتي كيف يتصرفون في حال عاد أيهم”.
وأضافت: “بعد مكوثي ببيروت ظهرت صور “قيصر” وظهرت صورة ايهم من بين الصور، وفي 24 شباط/فبراير الماضي صدر الحكم على اياد غريب وهو ضابط صف وحكم عليه باربع سنوات ونصف، وهو شخص تقدم باعترافات على نفسه من دون شهود وكان شعورنا بادانته لانه جزء من النظام والاهم بالنسبة لنا ادانة النظام السوري. واثناء جلسة المحكمة الاخيرة التي صدر فيها الحكم على اياد غريب، واستغرقت القاضية ثلاثة ساعات بعد صدور الحكم لشرح انتهاكات النظام التي كان اياد جزء منها.
وحاليا عادت محاكمة ايمن رسلان وهو ضابط امن كبير ورئيس فرع الخطيب “251” بعد فصل محاكمته عن اياد غريب، وفي اخر اجلسة اسندت اليه تهمة التحرش الجنسي، بالاضافة الى التهم مثل (الاعتقال والتعذيب والتجويع وانتهاك حقوق الانسان باكملها) وطبعا ايضا الاغتصاب والقتل، وجميع تلك التهم تم توجيهها لرسلان، ومن المتوقع اصدار الحكم عليه في الشتاء القادم.
بما أنّنا تعرفنا على شهدائنا ضمن صور “قيصر” وتيقنا من موتهم، انشأنا في برلين رابطة اسمها “رابطة عائلات قيصر” وهي تضم 35 عائلة كل عائلة لها مفقود ظهرت صوره ضمن صور “قيصر”. ونسعى من خلال تلك الرابطة الكشف عن مصيرهم والمقابر الجماعية وتسليم رفاتهم وجثامينهم ودفنهم كما يليق بهم. ولكن تلك القصة تتطلب ان تصبح سوريا بلد امن لنتمكن من كشف القبور والمقابر الجماعية، وبمعنى اخر “المشوار طويل”.
ونحن نحاول البدء في مسألة المحاسبة، وأنا منذ بداية العام 2017، كنت ما أزال في بيروت وسمعت أنّ أوّل دعوى ترفع ضدّ رؤوساء الفروع الأمنية في سوريا، فسألت عن إمكانية مشاركتي برفع دعوى، وجائتني الموافقة. وأنا جئت إلى برلين بدعوى من المركز الأوروبي لحقوق السوريين والإنسان وبدعوى أنّني مدّعية وشاهدة”.
العدالة لأيهم ولبقية الضحايا
وعند سؤال مريم الحلّاق عن العدالة التي تسعى لها، قالت لـ”أخبار الآن“: “أعتقد أنّه إذا أردنا أخذ العدالة بالمفهوم المجرّد، لا يمكن تعويض أيّ شخص غادرنا… لكن على الأقل، أن تتمّ محاسبة القاتل والمتسبب بموتهم، ويتخلد ذكراهم وأن يكون هناك تعويض مادي ومعنوي للعائلات، والحرص على أن تبقى ممتلكاتهم لا أن يستولي النظام عليها”.
وأضافت: “حالياً نحن في أوروبا لا نملك سوى رفع صوتنا ونبدأ برفع الدعاوى، وأنا أيضاً أطالب دائما بالإفراج عن المعتقلين بشكل عام لأنه يومياً هناك اعتقال وموت، ودائما نقول يجب إنّه إخراج المعتقلين قبل حدوث مقابر جماعية”. وأوضحت: “اجتمعنا نحن 5 روابط وأصدرنا ميثاق خطة عمل لحلّ ملف المعتقلين، وتمّ إطلاقه في العاشر من شباط/فبراير الماضي. ونعمل بشكل عام على أهداف الرابطة المتعلقة بالمعتقلين والمحاسبة والعدالة”.
مطالب والدة ايهم وعائلات الضحايا وامنياتهم
وفي نهاية اللقاء ولتسليط الضوء على مطالب والدة أيهم وأمنياتها، أجابت قائلة: “مطلبي كبير وصعب التحقيق في الوقت الحالي، لكنّه أمل سيدة قاربت على السبعين من عمري، وأدعو أهل سوريا إلى نسيان كلّ خلافاتهم ويتوحدون ويكون لهم راي واحد، ليتمكن المجتمع الدولي من مساعدتنا، لأنّه طالما نحن متفرقون، فلن يكون هناك قرار.
وأضافت: “الحل في سوريا هو قرار سياسي، خصوصاً سحب السلاح من الجميع، وسيحصل ذلك بعد توحيد جهود كلّ جهود السوريين في بلاد الشتات ونسيان الخلافات، ونتذكر أنّنا نتحدّر من بلد له حضارة وتاريخ ونرجع لها ونبنيها، وهذه أمنيتي السلام، سلام النفس، سلام التسامح.
وأكّدت في نهاية حديثها: “نحن لن نسامح من قتل أبناءنا، والجميع سيحاسبون من بشار الأسد وحتّى أصغر سجّان ضرب وقتل وعذب… لكن أنا أناشد الشعب السوري الذي يستحق الحرية والحياة، أن يتجمع مع بعضه البعض من كافة الطوائف، ولنتذكر فقط أنّنا سوريون”.
وفي سياق متصل، ساهمت تسريبات “قيصر” التي تعرف أيضاً بـ”تقرير قيصر” ( الذي وثّق كثيراً من صور الضحايا المدنيين داخل معتقلات النظام السوري)، بمعرفة مصير نحو 11 ألف من المحتجزين في سجون النظام السوري خلال الفترة الممتدة بين العامين 2011 و2013، والذي تمّ طرحه رسمياً أوائل العام 2014 هذا من جهة، ومن جهة أخرى مهّد لظهور ما يعرف “قانون قيصر” لحماية المدنيين السوريين، وهو اسم لعدد من القانونين التي اقترحها الكونغرس الأمريكي ضدّ نظام الأسد والأنظمة الداعمة له مثل إيران وروسيا.