ما وراء زيارة رئيس إلى دمشق؟
وسط تجاذبات سياسية في المنطقة أبرزها سعي عربي لاستعادة سوريا إلى الجامعة العربية ومحاولة إبعادها عن فلك نفوذ طهران جاء الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق في زيارة رسمية يريد منها التأكيد لجمهوره في إيران وللسوريين وربما للعرب أيضا أن ما بين دمشق وطهران أعمق من أي محاولات لإبعادهما عن بعض وأكثر رسوخا مما يظن كثيرون.
ولأجل هذا نشط الإعلام المؤيد لإيران في المنطقة وقد كان بعيدا عن الموضوعية في تغطية أنباء الزيارة في إسباغ التوصيفات الكبيرة عليها فهي استراتيجية وهي تاريخية وهي فتح كبير وإنجاز عظيم صانعا منها حدثا ضخما بهدف إنجاحها وإظهار فكرة مفادها أن إيران جاءت إلى سوريا لتبقى وربما لتتمدد.
رسميا وبشكل علني كان هدف الزيارة اقتصاديا لتدعيم التعاون الثنائي وتوقيع اتفاقيات مشتركة وعلى هامش الزيارة قام الرئيس الإيراني بحضور احتفال النصر في مقام السيدة زينب بدمشق. لا تكمن أهمية هذه الزيارة في الاتفاقيات التي تم توقيعها فهذه يمكن أن يوقعها وزراء أو سفراء لكن أهمية الزيارة تكمن في حيثيات ظروفها وتوقيتها.
لا شك أن الهدف الأول والأكبر للزيارة هو تأكيد نفوذ إيران في سوريا بعد أن كثرت التسريبات عن تململ سوري شعبي واحيانا رسمي من هذا النفوذ وما تسعى إليه طهران هو استعادة نفوذها ومكانتها في سوريا.
استفادت سوريا من الدعم الإيراني الواضح للتغلب على التمرد والإرهاب والان تتجه لإعادة الإعمار وهي بحاجة أكبر إلى الدعم العربي في هذا المجال ولا بد أن زيارة الرئيس الإيراني كان فيها تأكيد لضمان حصة إيرانية في مشروعات إعادة الإعمار وهذا واضح من انضمام وزير الطرق وبناء المدن إلى الوفد الرسمي المرافق للرئيس. فالمشاركة في إعادة الإعمار ستكون عاملا مساعدا على توسيع مجالات التدخل وترسيخ النفوذ والبقاء في البلاد.
الزيارة تأتي في أعقاب التفاهم السعودي الإيراني على تطبيع العلاقات بين الجانبين وفي وقت تعمل فيه الدول العربية على استعادة سوريا إلى الصف العربي وإشراكها في مؤتمر القمة المقبل في السعودية.
وكان ذلك التفاهم عاملا مهما في تعزيز موقف سوريا المرن في التعاون مع جوارها العربي. فهي الآن بحاجة إلى الدول العربية واستثماراتها في إعادة الإعمار أكثر من حاجتها إلى ميليشيات إيران. ولا شك أن محادثات الرئيس الإيراني في دمشق تطرقت إلى هذا الأمر الذي قد يثير قلق طهران مع أن الرئيس الإيراني رحب علانية بعودة سوريا إلى محيطها العربي لكنه بالتأكيد أكثر حرصا على احتكار علاقات مميزة بين طهران ودمشق.
سعت طهران من هذه الزيارة إلى إظهار قوتها الدبلوماسية والسياسية لتقول أن العلاقات الإيرانية السورية راسخة وان بقاء النظام السوري كان بفضل الدعم الإيراني الذي من حقه الآن أن يحصد ثمار هذا الدعم.
ولان العلاقة قائمة بين إيران قوية وسوريا ضعيفة كان لافتا في هذه الزيارة وخلافا لأي بروتوكول أن الرئيس الضيف كان يقوم بنشاطات متفردة بدون أي مرافقة سورية رسمية باستثناء الاحتفال الذي جرى في مقام السيدة زينب حيث كان وزير الأوقاف السوري بصفته الدينية وليس الرسمية. كذلك كان لافتا أن الرئيس الضيف استقبل بعض المسؤولين السوريين في مقر إقامته وليس في إطار محادثات رسمية.
أما الأمر الأغرب في هذه الزيارة وكان لافتا جدا فهو ما جاء في البيان المشترك عند نشره لأول مرة ثم حذف من النشرات اللاحقة والخاص بلجنة متابعة الديون والمستحقات. فقد جاء في النص الأصلي أنه سيتم إجراء تحقيق دقيق لحجم الديون وتفعيل اتفاقيات سابقة تنص على إعطاء إيران أراض في سوريا بدل هذه الديون. ولهذا ترى المعارضة السورية أن الرئيس الأسد بالفعل باع سوريا لإيران لضمان بقائه في السلطة.
مع ذلك تريد إيران أن تُظهر بعض المرونة وان تنحني قليلا للظروف الإقليمية لإبعاد الأنظار عما يجري في الداخل الإيراني سواء فيما يخص قمع الانتفاضة أو في تعزيز القدرات النووية بينما توقفت مفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي وكأن الاتفاق مات فعلا وعادت إيران إلى نشاطها النووي السابق على الاتفاق.
كذلك تقول الزيارة إن إيران تحاول أن تلعب دورا في تشكيل السياسة الإقليمية وأن هذا الدور لا يزال فاعلا ومؤثرا وأن اللاعبين الإقليميين لا يمكنهم الاستفراد في سياسة المنطقة من دون أن يكون لإيران دور في هذه السياسة. ولذلك حرص الرئيس السوري في كلمته خلال لقائه الرئيس الإيراني على القول إن العلاقات السورية الإيرانية علاقات مستقرة وثابتة وأن إيران لم تتردد في الوقوف إلى جانب سوريا ودعمها سياسيا وعسكريا واقتصاديا.
تهدف الزيارة أن تؤكد لدمشق أن إيران ستظل ملتزمة معها ولن تتركها وحدها في مواجهة إسرائيل. لكن إسرائيل في الواقع تصول وتجول في الأجواء السورية وتضرب المصالح الإيرانية في سوريا وتدمرها من دون أن يكون هناك أي رد مباشر سواء من جانب سوريا أو إيران. وقبيل ساعات من وصول الرئيس الإيراني إلى دمشق دمر قصف إسرائيلي أجزاء من مطار حلب وأخرجه من الخدمة كما تم تدمير مستودع ذخيرة وصلت إلى هناك قبل أسبوع. هذا القصف منع الرئيس الإيراني من زيارة حلب مثلما كان في برنامج الزيارة.
بالإضافة إلى الجانب السياسي جاء الرئيس الإيراني إلى دمشق باحثا عن نتائج اقتصادية تكون ثمرة للدعم الإيراني الذي تواصل للنظام منذ اثني عشر عاما.
ولهذا ابتدأت الزيارة بتوقيع مذكرة تفاهم لخطة التعاون الاستراتيجي الشامل طويل الأمد بين إيران وسوريا تشمل ميادين الزراعة والسكك الحديدية والطيران المدني والنفط والمناطق الحرة. بالإضافة إلى اتفاقات تناولت المشروعات الصغيرة والمتوسطة والسياحة والكهرباء.
ولهذه الاتفاقات أبعاد أوسع من مجرد تعاون ثنائي بل يقصد منها تعزيز التحالف الاستراتيجي القائم بين دمشق وطهران. وفي هذه الاتفاقات أيضا أعادت إيران الحديث عن مشروعها بإقامة سكة حديد تمتد من طهران إلى اللاذقية مرورا بالأراضي العراقية.
التعاون الاقتصادي العميق بين إيران وسوريا ليس جديدا. وبحسب متابعين للعلاقات بين البلدين أقامت إيران اقتصادا موازيا لها في سوريا وهذا الانغماس الإيراني في الاقتصاد السوري عزز هيمنة إيران في سوريا وهو الذي دفع بالبلدان العربية للابتعاد عن سوريا في المرحلة السابقة.
مع تغير الظروف الإقليمية والدولية وانحسار التواجد الأميركي في المنطقة وتعاظم النفوذ الصيني تغيرت قواعد اللعبة وظهرت نقاط جذب جديدة دفعت بالقوى الإقليمية لإعادة النظر في علاقاتها بعضها ببعض والانتقال إلى التفكير البراغماتي الذي يضمن مصالحها. ومن هنا جاء اتفاق التفاهم السعودي الإيراني وكذلك الانفتاح العربي على سوريا.
الامتحان الحقيقي لهذه التغيرات ستكون القمة العربية القادمة التي تستضيفها المملكة العربية السعودية. فإذا تم توجيه الدعوة إلى الرئيس السوري للحضور شخصيا إلى القمة تكون المنطقة قد دخلت بالفعل مرحلة إيجابية جديدة والا فإنها ستظل بحاجة إلى مزيد من الجهود والمفاوضات للوصول إلى توازن استراتيجي يفتح الباب لمرحلة جديدة تراعي مصالح الجميع.