الاحتجاجات الشعبية تُزعزع أركان عرش خامنئي
- عائلات بارزة في إيران تميل نسبياً لصالح المحتجين
- فريدة مرادخاني وصفت النظام بأنه “دموي وقاتل للأطفال”
لم تعد الأزمة التي فرضتها الاحتجاجات التي تشهدها إيران منذ نحو 74 يوماً قاصرة على مجرد تسببها في تصعيد حدة الضغوط التي يتعرض لها النظام الحاكم على المستويين الداخلي والخارجي، رغم أهمية ذلك بالطبع، وإنما تزايدت خطورتها بعد أن وصلت إلى عائلة المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي نفسه.
صحيح أن هناك عائلات بارزة في إيران بدا واضحاً أنها تميل نسبياً لصالح المحتجين، وإن لم تعلن ذلك بشكل صريح، على غرار عائلة رئيس الجمهورية الأسبق أكبر هاشمي رفسنجاني، بل وعائلة مؤسس الجمهورية روح الله الخميني، إلا أن الصحيح أيضاً أن أصداء الاحتجاجات كانت بعيدة، إلى حد ما، عن عائلة المسؤول الأول في النظام الإيراني.
وربما يمكن القول إن استمرار الاحتجاجات حتى تجاوزها أسبوعها العاشر، كان هو السبب الرئيسي الذي دفع ببعض أفراد العائلة- من الدائرة الأولى والثانية- إلى الانخراط في التفاعلات التي أثارتها تلك الاحتجاجات. وقد بدا المثال الأبرز على ذلك في مقطع الفيديو الذي سجلته فريدة مرادخاني ابنة شقيقة خامنئي، قبيل اعتقالها في 23 نوفمبر الجاري، حيث وصفت النظام الإيراني بأنه “دموي وقاتل للأطفال”، داعية الحكومات الأجنبية إلى قطع العلاقات معه بسبب حملة القمع التي يتبعها في التعامل مع المحتجين.
واللافت في هذا السياق، هو أن النظام لم يتردد في التعامل أمنياً وبشكل سريع مع ابنة شقيقة خامنئي، حيث أنها اعتقلت قبل ذلك في بداية العام بتهمة الإشادة بزوجة الشاه فرح بهلوي، ثم اعتقلت مجدداً في أعقاب تسجيل الفيديو.
دلالات عديدة
هذه التطورات في مجملها تطرح دلالات عديدة تتصل برؤية النظام للضغوط التي تفرضها الاحتجاجات، وموقعه منها. أولى هذه الدلالات تتصل باتساع نطاق تأثير الاحتجاجات، حيث يكشف وصولها إلى عائلة المرشد عن مدى التأثير والتوسع الذي فرضته على الأرض. إذ لم تمنع القيود المفروضة والسياسة القمعية التي يتبناها النظام الاحتجاجات من الوصول إلى الدائرة الاجتماعية القريبة من المرشد الأعلى للجمهورية.
ويوحي ذلك، من دون شك، بأن الاحتجاجات أنتجت أزمة معقدة داخل النظام، خاصة أنها وضعته أمام اختبار صعب، لم يستطع حتى الآن تجاوزه، وربما لن يستطيع على المدى القريب، في ظل إصراره على تبني الآليات التقليدية نفسها في التعامل مع المحتجين في الشارع، والتي تتوزع بين تكليف قوات التعبئة “الباسيج” بالتدخل بقوة لقمع الاحتجاجات، ورفع مستوى الاعتقالات في صفوف المحتجين، وشن عمليات عسكرية عبر الحرس الثوري في شمال العراق، بل وصل الأمر إلى حد ترهيب لاعبي المنتخب الإيراني لكرة القدم، قبيل مباراته مع ويلز في نهائيات مونديال كأس العالم التي تقام في قطر، لإرغامهم على ترديد النشيد الوطني، بعد عزوفهم عن ذلك أثناء المباراة الأولى مع إنجلترا تضامناً مع المحتجين.
وتتمثل الثانية، في محاولة توجيه رسالة ردع للمحتجين، إذ يبدو أن النظام يحاول عبر الترويج لاعتقال ابنة شقيقة المرشد تأكيد أنه لن يتوانى عن اتخاذ إجراءات تعسفية في مواجهتهم في حالة تماديهم في الاعتراض على السياسات التي يتبعها، حتى لو كانوا من أفراد عائلة المسؤول الأول فيه. وبمعنى آخر، فإن النظام يريد عبر تلك الخطوة تأكيد أن الأولوية بالنسبة له تكمن في الحفاظ على بقاءه في السلطة وعدم تقديم تنازلات للمحتجين أو إبداء مرونة إزاء بعض المطالب، حتى لو كان ذلك على حساب العلاقات الاجتماعية داخل عائلة المرشد نفسه.
ومن دون شك، فإن الهدف من ذلك هو تقليص عدد المحتجين في الشارع، وممارسة ضغوط عليهم للتوقف عن النزول إلى الساحات أو التظاهر في الجامعات والمرافق العامة مثل مترو طهران على نحو تسبب في إنهاك قوى الأمن التي ما زالت تواجه المحتجين على مدى أكثر من سبعين يوماً، وهو ما يمثل أحد الأسباب التي دفعت المرشد إلى منح الضوء الأخضر لمليشيا “الباسيج” بالتدخل والانخراط في حملة مواجهة المحتجين.
أما الثالثة، فتتعلق بمنع استقطاب مزيد من الأقارب، حيث ربما يخشى النظام من أن استمرار الاحتجاجات يمكن أن يدفع أفراداً آخرين من عائلة المرشد إلى الانخراط في دعم الاحتجاجات، عبر تأييد مطالبها وشن انتقادات ضد السياسات التي يتبناها النظام في التعامل معها.
واللافت في هذا السياق، هو أن فريدة مرادخاني لم تكن هي الشخصية الأولى من عائلة خامنئي التي انخرطت في دعم الاحتجاجات، إذ سبقها خالها شقيق خامنئي نفسه وهو هادي خامنئي، أحد رجال الدين الذين يبدون تحفظات نسبية على سياسات النظام.
إذ دعا هادي خامنئي، وهو رئيس جمعية قوى خط الإمام، في 26 أكتوبر الفائت، النظام إلى تغيير آليات تعامله مع المحتجين، واصفاً مطالبهم بأنها محقة. ومن المعروف أن التوتر يمثل سمة رئيسية في العلاقة بين هادي خامنئي وشقيقه المرشد الأعلى للنظام، في ظل تحفظ الأول على السياسات التي يصر الثاني على اتباعها في التعامل مع القضايا الداخلية والخارجية.
ويعني ذلك في المقام الأول أن النظام سعى عبر المسارعة باعتقال فريدة مرادخاني إلى تأكيد أنه سوف يتعامل بحسم مع أي من أفراد العائلة يبدي دعماً للاحتجاجات، باعتبار أن هذا الموقف يمثل إحراجاً مباشراً للمرشد نفسه ويضفي مزيداً من الزخم والأهمية على الاحتجاجات غير المسبوقة في ديمومتها مقارنة بالاحتجاجات السابقة التي شهدتها إيران على غرار احتجاجات 2017 و2019.
وتنصرف الرابعة، إلى الرد على مطالب مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الذي أصدر قراراً في 24 نوفمبر الجاري، بتشكيل هيئة مستقلة للتحقيق في الانتهاكات التي ارتكبت بحق المحتجين الإيرانيين. إذ يمكن القول إن النظام حاول من خلال تلك الخطوة تأكيد أنه لا يتبنى سياسة تمييزية إزاء التعامل مع المحتجين، عبر الزعم بأن الإجراءات التي يتخذها تمتد حتى إلى أقارب المرشد نفسه طالما أنهم، وفقاً لمزاعمه، يشاركون فيما يصفه بأنه “أعمال شغب”.
لكن اللافت في هذا السياق، هو أن النظام لم يكتف بذلك، بل إنه أعلن، في 28 نوفمبر الجاري، رفضه استقبال هيئة التحقيق أو التعاون معها، واعتبر القرار تدخلاً في الشؤون الداخلية لإيران وخطوة مُسيَّسة للضغط عليها في ظل الخلافات المتعددة التي ما زالت عالقة بينها وبين الدول الغربية حول الاتفاق النووي والدعم العسكري الذي تقدمه لروسيا في الحرب مع أوكرانيا، كما استدعت وزارة الخارجية الإيرانية السفير الألماني لدى طهران، احتجاجاً على مشروع القرار الذي قدمته ألمانيا وأيسلندا إلى المجلس في هذا الصدد.
تصعيد متواصل
على ضوء ذلك، يمكن القول إن خطوة اعتقال ابنة شقيقة خامنئي تشير إلى المستوى الذي وصلت إليه الضغوط التي يتعرض لها النظام الإيراني في الوقت الحالي، على نحو يمكن معه ترجيح أن يتجه النظام إلى الاستعانة بما يمكن تسميته بـ”المدفعية الثقيلة” ممثلة في الحرس الثوري، الذي بدأ يمهد للانخراط في قمع الاحتجاجات، بعد انشغاله خلال الفترة الماضية في توجيه ضربات عسكرية إلى الجماعات الكردية الإيرانية المسلحة الموجودة في شمال العراق.
عدم انخراط الحرس الثوري من البداية في قمع الاحتجاجات يمكن تفسيره في ضوء محاولته تجنب تكرار ما حدث عام 2009، خلال الاحتجاجات التي قادتها “الحركة الخضراء”، حيث أدى تدخل الحرس إلى ارتفاع أعداد الضحايا من القتلى والمصابين، فضلاً عن تزايد عدد المعتقلين، بالتوازي مع فرض الإقامة الجبرية على زعيمي الحركة مير حسين موسوي ومهدي كروبي. إلا أنه بعد أن نجحت الاحتجاجات الحالية في تجاوز كل الإجراءات القمعية التي اتبعها النظام، لم يعد للأخير خيار آخر سوف الاستناد إلى ذراعه الأمنية الأهم لحماية بقاءه في الحكم.
لكن المفارقة تكمن في أن انخراط الحرس الثوري في مواجهة الاحتجاجات قد ينتج مفاعيل عكسية في النهاية، باعتبار أنه سوف يتسبب في ارتفاع أعداد القتلى والمعتقلين، على نحو ربما يؤدي إلى تصاعد الاحتجاجات نفسها وانضمام قوى وأطراف أخرى لها في الداخل.
وبالطبع، فإن ذلك يعود، في قسم منه، إلى أن المحتجين يعتبرون أن الحرس الثوري هو أحد أسباب الأزمة التي أدت إلى اندلاع الاحتجاجات في حد ذاتها، وهو ما بدا جلياً في تعمدهم إحراق صور وتماثيل القائد السابق لـ”فيلق القدس” التابع للحرس الثوري قاسم سليماني.
وهنا، فإن الرسالة تبدو واضحة ومفادها أن الأزمات المزمنة التي تعاني منها إيران ولم تفلح الحكومات المتعاقبة في احتواء تداعياتها لن تحل دون أن تتوقف “مغامرات” الحرس في الخارج ويتراجع نفوذه في الداخل، والذي فرض عليها ضغوطاً وعقوبات كان الإيرانيون هم أول من دفع ثمنها قبل النظام نفسه.