هل شكلّت الاحتجاجات الإيرانية عائقا أمام الصفقة النووية؟
لم تكن المفاوضات التي بدأت بين إيران والقوى الدولية منذ 6 أبريل 2021، حول الاتفاق النووي، سهلة من البداية. فالخلافات كانت واسعة بين الأطراف المختلفة، وعدم الثقة فرض تأثيره مبكراً. ومع ذلك، كان لدى هذه الأطراف طموح في إمكانية تجسير فجوة المواقف، والوصول إلى صفقة جديدة تعزز من احتمال استمرار العمل بالاتفاق النووي، وبالتالي إبطاء حركة التقدم النووي الإيراني، وتفادي أزمة نووية على الأقل مؤقتاً إلى حين الاستقرار على مقاربة أفضل لتسوية هذه الأزمة بشكل نهائي.
إلا أن الاحتجاجات التي اندلعت في إيران، منذ 16 سبتمبر الماضي، اعتراضاً على وفاة الفتاة الكردية العشرينية مهسا أميني، جاءت في توقيت حرج بالنسبة للصفقة النووية. إذ أضعفت، إلى حد كبير، من احتمال إبرام الصفقة المحتملة على الأقل في المديين القريب والمتوسط.
من دون شك، فإن ذلك لا يعود إلى استياء الدول الغربية من السياسة القمعية التي تبناها النظام الإيراني في التعامل مع المحتجين. إذ أن المصالح هي التي تحكم في النهاية. وبمعنى آخر، فإن الدول الغربية ليست في وارد أن تضحي بمصالحها من أجل دعم المحتجين في إيران، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها سياستها إزاء الاحتجاجات السابقة على سبيل المثال، حيث لم تتحرك بشكل بارز ولم يتعدى موقفها مجرد التنديد بالعنف الذي تمارسه السلطات في مواجهة المحتجين.
صحيح أن تلك الدول فرضت عقوبات على بعض المؤسسات النافذة وعدد من المسؤولين الكبار في النظام، على غرار وزير الداخلية أحمد وحيدي، بسبب الانتهاكات التي ارتكتب ضد المحتجين على مدى الشهرين الماضيين. لكن الصحيح أيضاً أن هذه العقوبات ليس لها تأثير على الأرض باعتبار أنها تتضمن في الأساس منع هؤلاء المسؤولين من دخول الاتحاد الأوروبي وتجميد أصولهم في دوله، وهي أمور لا تحدث في الغالب. فلا المسؤولين الإيرانيين يزورون دولاً في الاتحاد الأوروبي، ربما باستثناء الدبلوماسيين، ولا هم من السذاجة للدرجة إلى تغريهم بإيداع أموالهم لدى مصارف أوروبية.
ومن هنا، تثير هذه العقوبات في كثير من الأحيان سخرية هؤلاء المسؤولين، على غرار رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الإيرانية محمد باقري الذي شملته العقوبات الأوروبية التي فرضت في 20 أكتوبر الماضي، والذي دعا، بعد ذلك بأربعة أيام، الاتحاد الأوروبي إلى استخدام أصوله المصادرة لشراء فحم مع اقتراب فصل الشتاء، في إشارة بالطبع إلى الأزمة التي تواجهها الدول الأوروبية بسبب نقص إمدادات الغاز على إثر استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية.
أسباب أخرى
يمكن القول إن هناك أسباباً أخرى دفعت الدول الغربية إلى تأجيل الصفقة النووية أو النظر في أية مقترحات جديدة تخص هذه الصفقة، أو بمعنى أدق إبداء اهتمام أقل بها في المرحلة الحالية.
أولا هذه الأسباب تتمثل في تفضيل هذه الدول الانتظار حتى استشراف ما سوف تؤول إليه الاحتجاجات الحالية. فعلى غرار النظام الإيراني، تفاجأت هذه الدول باستمرار الاحتجاجات، التي افتتحت شهرها الثالث، ولم تتراجع حدتها بشكل كبير. بل إن هناك حرصاً من جانب المحتجين على الاحتفاء بذكرى اندلاع احتجاجات 2019، باعتبار أن ذلك يعد آلية مهمة لاستمرار الحشد في الشارع وتقليص تأثير السياسة القمعية التي يتبعها النظام.
وهنا، يبدو أن هذه الدول بدأت تتصور أن هذه الاحتجاجات يمكن أن تفرض معطيات جديدة ربما يتم استغلالها بعد ذلك في إدارة ملف البرنامج النووي الإيراني، أو مواجهة التحدي الذي يفرضه استمرار الأنشطة النووية الإيرانية بوتيرة متصاعدة. بل إن هناك من المسؤولين الأوروبيين ما بدأ يرى أن هذه الاحتجاجات ترقى إلى مستوى الثورة.
وقد كان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون واضحاً في هذا الصدد، عندما أشاد، خلال لقاءه مع أربعة من الناشطات الإيرانيات على هامش منتدى للسلام عقد في باريس في 11 نوفمبر الجاري، بـ”الثورة التي يقدنها”. هذا التصريح تحديداً أثار استياءً واضحاً لدى إيران، حيث أنها من المرات القليلة التي يصف فيها مسؤول غربي ما يحدث في إيران بأنه ثورة في مواجهة النظام، أو ثورة ضد الثورة التي اندلعت في عام 1979.
هذا التطور اللافت في الموقف الأوروبي يطرح دلالة مهمة تتعلق بأن ذلك ربما يكون له دور في اتجاه الدول الغربية بشكل عام إلى تأجيل البت في مصير المفاوضات النووية، إلى حين تقييم مدى قدرة النظام على مواجهة هذا “التحدي الداخلي غير المسبوق” الذي بدأ يوصف بأنه “ثورة”، أو مدى قدرة المحتجين على رفع مستوى مطالبهم وفرض تهديدات جدية لبقاء النظام في الحكم فعلاً.
ومن هنا يمكن فهم تصريح الرئيس ماكرون بأن “الموقف السياسي الحالي في إيران أدى إلى تغيير الموقف بالنسبة للاتفاق كثيراً وأضعف احتمال التوصل إلى اتفاق”. وربما ينسحب ذلك على مواقف دول أوروبية أو غربية أخرى، باتت ترى أن الاحتجاجات الحالية تختلف بدرجة كبيرة عن الاحتجاجات السابقة، لاسيما لجهة قدرتها على الاستمرار حتى افتتاح الشهر الثالث رغم حملات الاعتقال المستمرة وتزايد أعداد القتلى، وأنه قد يكون من الأفضل مواصلة التفاوض مع النظام- إن استمر في السلطة- في مرحلة ما بعد الاحتجاجات وليس خلالها.
التفافات طهران
أما ثاني هذه الأسباب فيتعلق بتصاعد حالة عدم الثقة في مدى التزام إيران بأى صفقة نووية جديدة. ففي الأساس، أثبتت إيران بالفعل أنها طرف لا يمكن أن ينخرط في أية التزامات دولية صارمة. وكان ذلك واضحاً بشكل لا يقبل الشك في استغلال الاتفاق النووي الحالي الذي تم التوصل إليه مع مجموعة “5+1” في 14 يوليو 2015، في تعزيز تدخلاتها في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وتهديد أمن ومصالح القوى الإقليمية والدولية المعنية بأزماتها، وتطوير برنامج الصواريخ الباليستية.
بل إن إيران اتجهت إلى رفع مستوى تخصيب اليورانيوم، بما ينتهك بشكل صريح الاتفاق النووي، حيث وصلت كمية اليورانيوم المخصب إلى 19 ضعف ما هو منصوص عليه في الاتفاق. ورغم أن إيران بررت ذلك بأنه يمثل رداً على قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018، وإعادة فرض عقوبات أمريكية على إيران بداية من 7 أغسطس من العام نفسه، فإن تخفيض مستوى التزامات إيران في الاتفاق النووي في حد ذاته، أثبت أن الاتفاق يعاني من ثغرات لا تبدو هينة، وأنه طالما أن إيران سبق أن حاولت الالتفاف عليه، فإنه لا يوجد ضمان بأنها سوف تلتزم ببنوده من جديد حتى لو عادت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إليه مرة أخرى.
ورغم أن الدول الغربية كان مدركة لذلك، إلا أنها كانت تطمح في أن العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، فضلاً عن الرقابة الصارمة التي ستفرضها الوكالة الدولية للطاقة الذرية على الأنشطة النووية الإيرانية، إلى جانب التهديد المستمر بإمكانية تفعيل ما يسمى بـ”آلية الزناد” أو Snapback، يمكن أن تفرض قيوداً على هذه الأنشطة النووية وتمنع إيران من العودة إلى الالتفاف على التزاماتها في الاتفاق أو على الأقل تقنعها بأنها سوف تدفع ثمناً غالياً في حالة ما إذا أقدمت على خطوة من هذا القبيل.
لكن إمعان إيران في إمداد روسيا بدعم عسكري ممثل في الطائرات من دون طيار، فضلاً عن إمكانية تسليمها صواريخ باليستية، لتعزيز قدرتها على مواصلة عملياتها العسكرية في أوكرانيا، لاسيما في ظل الدعم الغربي المستمر للأخيرة، والذي مكنها من استعادة خيرسون على سبيل المثال، في تحول ميداني لافت في الحرب المستمرة منذ 24 فبراير الماضي، كل ذلك ساهم في تكريس حالة عدم الثقة لدى الدول الغربية في نوايا إيران، وأضعف من إمكانية التعويل على “اضطرار” الأخيرة إلى الالتزام بأى اتفاق محتمل، حتى مع بقاء سيف إعادة تفعيل العقوبات الدولية مسلطاً على رقبتها، وفقاً لما تقتضيه آلية “Snapback”. وقد كان ذلك هو المبرر نفسه الذي سبق أن استند إليه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب للانسحاب من الاتفاق النووي، الذي كان يعتبره “أسوأ اتفاق يمكن التفاوض بشأنه”.
ختاماً، يبدو أن الدول الغربية باتت مدركة إلى أن الوصول إلى صفقة جديدة مع إيران لن يحل المشكلة النووية العالقة معها، أو يقلص التهديد الذي يفرضه استمرار الأنشطة النووية بهذا المستوى. فإيران سوف تستمر في الالتفاف على أي صفقة، ولن تنجح القيود التي ستفرض عليها في منعها من الاستمرار في تبني هذه السياسة.
كل ذلك سوف يفرض بالطبع في النهاية تراكمات جديدة في العلاقات بين إيران والدول الغربية. صحيح أن باب التفاهمات ما زال قائماً، إلا أن الخيارات المتاحة في هذا الصدد لا تبدو متعددة، نتيجة اتساع نطاق التوتر، وتزايد حدة الخلافات التي لم تعد تقتصر على الملفات الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط، وإنما باتت تمتد إلى الملف الأهم الذي يحظى بأهمية خاصة لدى هذه الدول وهو الملف الأوكراني.