ماهي أدوار “بُنياد” إيران؟
أعادت القضية التي أثارتها محاولة اغتيال الكاتب البريطاني (الهندي الأصل) سلمان رشدي في نيويورك، في 12 أغسطس الماضي، الجدل مرة أخرى حول الآليات التي تستخدمها إيران لتعزيز تمددها وتدخلاتها في الخارج، حتى في المناطق البعيدة عن حدودها.
إذ لا تقتصر هذه الآليات على الحرس الثوري أو “فيلق القدس” التابع له والمسئول عن إدارة العمليات الخارجية، ولا حتى البعثات الدبلوماسية التي تستخدمها إيران لاستهداف قوى المعارضة الإيرانية في الخارج، على غرار ما حدث في ألبانيا، التي اضطرت إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية وطرد البعثة الدبلوماسية الإيرانية من أراضيها، في 7 سبتمبر الماضي، بعد ثبوت تورط إيران في هجوم سيبراني استهدف مؤسسات الدولة، إلى جانب اجتماع كان من المفترض أن تعقده المعارضة الإيرانية، في يوليو الماضي، وإنما باتت تمتد أيضاً إلى المؤسسات الخيرية الاجتماعية التي تسمى في إيران بـ”البُنياد”.
وقد بدا ذلك جلياً في العقوبات الجديدة التي أصدرتها وزارة الخزانة الأمريكية، في 29 أكتوبر الفائت، والتي شملت مؤسسة “الخامس عشر من خُرداد” الإيرانية، التي سبق أن أعلنت مكافأة قدرها 3.3 مليون دولار لمن يستطيع تنفيذ الفتوى التي أصدرها مؤسس نظام إيران روح الله الخميني، في عام 1989، بإهدار دم رشدي رداً على تأليفه رواية “آيات شيطانية”.
هنا، فإن ثمة تساؤلات عديدة تفرض نفسها، أهمها من أين حصلت هذه المؤسسة على موارد مالية ضخمة تستطيع من خلالها دفع هذا المبلغ المالي لتنفيذ فتوى الخميني؟، وكيف تستخدمها إيران لتعزيز أهدافها وسياستها في الخارج؟.
أذرع خفية
يمكن القول إن مؤسسة “الخامس عشر خرداد” ما هي إلا جزء من شبكة عنكبوتية واسعة من المنظمات التي تأسست في إيران تحت اسم “بُنياد”، واتسع نطاق الأدوار التي تقوم بها في العقود الأخيرة. إذ تبرز في هذا السياق، مؤسسات أخرى ربما تكون أكثر أهمية وتأثيراً على غرار “مؤسسة المستضعفين” (بنیاد مستضعفان انقلاب اسلامی)، و”مؤسسة الإمام الرضا” (آستان قدس رضوي)، و”بنياد شهيد و أمور ايثارگران” (مؤسسة الشهيد وشئون المضحين).
هذه المؤسسات أو ما يطلق عليه “البُنياد” تحصل على موارد مالية ضخمة وأصول تصل قيمتها إلى مليارات الدولارات، وذلك عبر آليات رئيسية ثلاثة:
الأولى: مصادرة أراضي وثروات النظام الملكي السابق وأنصاره، حيث عهد لبعض هذه المؤسسات إدارة هذه الأصول وتنميتها.
الثانية: الانخراط في أنشطة اقتصادية واسعة النطاق، في معظم المجالات إن لم يكن في مجملها، على غرار الصحة والتعليم والنقل والاتصالات والبتروكيماويات والطاقة والبناء.
الثالثة: الإعفاء من الضرائب، حيث أن معظمها يتبع المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي وبالتالي لا تخضع لإشراف الجهات الرقابية، فضلاً عن أن مواردها لا تدخل في ميزانية الحكومة. وحسب بعض التقديرات، فإن الأصول التي تمتلكها هذه المؤسسات تصل قيمتها إلى نحو 20 مليار دولار، أو ما يوازى 13% من إجمالي الناتج المحلي الإيراني.
في حين أن تقديرات أخرى تكشف أن مؤسسة “آستان قدس رضوي”، على سبيل المثال، تسيطر على نصف أراضي مدينة مشهد. وسبق أن فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات، في 18 نوفمبر 2020، على “مؤسسة المستضعفين”، التي أكدت أن المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي يستخدمها لـ”مكافأة حلفاءه تحت ستار العمل الخيري”.
ويحرص المرشد خامنئي على تعيين بعض المسئولين المقربين منه، والذين يحظون بثقته، على رأس هذه المؤسسات، والمثال الأبرز على ذلك الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي، الذي عين قبل انتخابه لمنصب الرئيس، كمشرف على المؤسسة التي تدير ضريح الإمام الرضا في مدينة مشهد وهى “آستان قدس رضوي”، وهو المنصب، الذي أهّله- إلى جانب توليه رئاسة السلطة القضائية- للوصول إلى منصب رئيس إيران، وربما يكون له دور في تصعيده ليكون أحد المرشحين لخلافة المرشد خامنئي بعد غيابه عن المشهد.
إذ أنه يوفر له ظهيراً دينياً ومالياً في الوقت نفسه، ويعطي انطباعاً بأن رئيسي قريب جداً من الدائرة الضيقة المحيطة بالمرشد، بدليل أنه يشرف على كل الأمور الخاصة بالمؤسسة المسؤولة عن إدارة ضريح الإمام الشيعي الثامن.
وقد كان لافتاً أن الرئيس السابق حسن روحاني حاول فتح ملف النفوذ الواسع لهذه المؤسسات، حيث حرص خلال تقديمه مشروع موازنة عام 2018 إلى مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) للمصادقة عليه، في 10 ديسمبر 2017، على الإشارة إلى المؤسسات البعيدة عن الرقابة والمساءلة. وكان ذلك جزءاً من صراع سياسي بدأ يتصاعد بين روحاني ورئيس السلطة القضائية آنذاك إبراهيم رئيسي المشرف في الوقت نفسه على العتبة الرضوية، والذي كان قد خسر لتوه الانتخابات الرئاسية لصالح روحاني، إلا أنه سعى منذ ذلك الحين إلى استقطاب دعم تيار المحافظين الأصوليين والقيادة العليا ممثلة في المرشد خامنئي لتعزيز فرصه في الوصول إلى منصب الرئيس خلفاً لروحاني، واستغل فيما بعد الضربات المتتالية للاتفاق النووي لتحقيق ذلك، والذي كان يعول عليه روحاني وتيار المعتدلين، بعد قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالانسحاب منه في 8 مايو 2018، ثم إعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران بداية من 7 أغسطس من العام نفسه.
أدوار موازية
اللافت في هذا السياق، هو أن هذه المؤسسات لا تقوم بممارسة أنشطتها داخل إيران فقط، خاصة على الصعيد المجتمعي والاقتصادي، وإنما بدأت تعزز تمددها في الخارج، حيث تستخدمها إيران كوسيلة لتوسيع نطاق نفوذها في بعض الدول التي تعاني من أزمات معيشية على غرار انتشار الفقر وارتفاع معدلات التضخم والبطالة. إذ تقوم هذه المؤسسات بأنشطة مثل إنشاء مستوصفات طبية، وورش لتعليم الخياطة، وتنظيم مسابقات لتحفيظ القرآن، وحفر آبار للمياه الجوفية.
وربما يمكن القول إن هذه المؤسسات تعزز ما يمكن تسميته بـ”القوة الناعمة” التي تسعى إيران باستمرار إلى استغلالها لدعم نفوذها في بعض المناطق والقارات، لاسيما في أفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا اللاتينية. بل إنها تنشط في العديد من الدول التي تشهد نزاعات مسلحة وحروباً أهلية وغيرها، حيث تدخل تحت ستار الأنشطة الخيرية والمساعدات الإغاثية، في حين أنها، في كثير من الأحيان، تنخرط في مثل تلك الصراعات لصالح أحد أطرافها.
وهنا، يمكن القول إن إيران تمعن في استغلال هذه المؤسسات، لاعتبارين رئيسيين:
أولهما، أنها تخدم أهدافها بشكل مباشر، لاسيما فيما يتعلق بدعم قدرتها على مواصلة التدخل في الشئون الداخلية لبعض الدول.
وثانيهما، أنها لا تتبع الدولة مباشرة أو بشكل رسمي، وبالتالي فإن الأنشطة التي تقوم بها ليست محسوبة على الأخيرة. وربما يفسر ذلك أسباب اتجاه بعض الدول إلى تبني إجراءات مشددة إزاء هذه الأنشطة دون أن يؤثر ذلك على علاقاتها الرسمية مع إيران.
إلا أن هناك دولاً أخرى باتت ترى أن إيران تستخدم هذه المؤسسات كستار تخفي من وراءه أهدافها وأدوارها التدخلية في شئونها وأزماتها الداخلية، على نحو دفعها إلى اتخاذ إجراءات مشددة لا تنحصر فقط في إغلاق مراكز أنشطة تلك المؤسسات، بل تمتد إلى تقليص مستوى العلاقات الدبلوماسية أو ربما قطعها بشكل نهائي.
تسييس الدعم
تحاول إيران إضفاء جانب “إنساني” على الأدوار التي تقوم بها هذه المؤسسات في الخارج تحديداً، من خلال الترويج إلى أنها تمارس أنشطتها في إطار ما يسمى بـ”نصرة المستضعفين”، وهو البند الذي جاء ذكره في الدستور الإيراني، لاسيما في المادة 154ٍ، التي تحتم على الحكومة الإيرانية تقديم يد العون إلى المحتاجين في مختلف أنحاء العالم، أو بمعنى أدق إلى ما يسمى بـ”المستضعفين” في مواجهة “المستكبرين”، دون أن يفرض ذلك، وفقاً للمادة، تدخلاً في الشئون الداخلية للدول الأخرى.
وهنا، فإن هذه المادة تحديداً تتسم بالتناقض والازوداجية، فضلاً عن أنها لا تعبر صراحة عن اتجاهات السياسة الإيرانية، أو بمعنى أدق لا تلتزم بها إيران حرفياً. إذ أن إيران تقدم الدعم، في بعض الأحيان، لصالح “المستكبرين” وليس “المستضعفين”، كما أنها في الوقت نفسه لم تفسر كيف يمكن أن لا يكون هذا الدعم تدخلاً في الشئون الداخلية للدول الأخرى، وهو العنوان الأبرز للسياسة الخارجية الإيرانية، وأحد الأسباب الأساسية التي أدت إلى تصاعد حدة التوتر في علاقاتها مع كثير من دول في منطقة الشرق الأوسط وخارجها.
فضلاً عن ذلك، فإن إيران التي تمعن في مواصلة هذا التدخل هي نفسها التي تشتكي الآن، وبمعنى أدق، تدعي أن هناك تدخلات خارجية في أزمتها الداخلية، التي فرضتها الاحتجاجات التي اندلعت منذ 16 سبتمبر الماضي وما زالت مستمرة، على نحو يوحي في النهاية بأن إيران تحرص دائماً على اتباع سياسة ميكيافيلية الهدف الأساسي منها هو تعزيز حضورها في الخارج وتوسيع نطاق تمددها داخل الدول الأخرى، حتى لو كان ذلك على حساب معالجة الأوضاع المعيشية الداخلية التي تعاني من أزمات هيكلية لا تبدو هينة في الفترة الحالية.