غول التضخم ينذر اللبنانيين بالتوعُّك المعيشي
في صباح 16 فبراير الجاري، دخل محمود (30 عاما) أحد متاجر المواد الغذائية في بيروت لجلب الاحتياجات اليومية لأسرته، لكنه غادر بعد أن ترك على كاونتر الكاشير أكثر من ثلثي السلع التي كان وضعها في سلة التسوق، عندما عرف أن أسعارها تضاعفت عما كانت عليه قبل يومين فقط، والنقود التي كانت في حوزته لم تكن كافية لشراء كامل الأغراض التي كان قد أختارها، بسبب ارتفاع سعر الدولار أكثر من 15 ألف ليرة في ليلة واحدة ليصبح 80 ألف ليرة للدولار الواحد.
محمود يعمل منذ عام ونصف في توصيل الطلبات (دليفري) لدى إحدى شركات توصيل الطعام، بعد انتهاء دوامه في شركة الكهرباء التي أصبحت شبه متوقفة منذ منتصف عام 2020، وذلك بسبب الراتب الضئيل الذي أصبح لا يكفيه لشراء احتياجات أسرته لـ أسبوع واحد، بعد أن كان من قبل يكفيه وأسرته لشهر كامل، حيث كان يتقاضى 2 مليون ليرة، كان ذلك المبلغ يوازي 1400$ قبل الأزمة الاقتصادية، إلا أنه اليوم صار لا يُساوي أكثر من 30$ فقط بفعل التضخم الذي يعاني منه الاقتصاد اللبناني.
معيشة لا تُطاق
يقول محمود لـ أخبار الآن”: حاليًا أتقاضى من عملي في شركة التوصيل 150$ شهريًا، بالإضافة إلى 40 ألف ليرة لبنانية (0.5$) مقابل كل طلب قوم بتوصيله، ولكن هذا لا يغطي ثلث احتياجاتي من المواد الغذائية الأساسية أنا وأسرتي، وبالرغم من أن المعيشة في ظل هذا الوضع لا تُطاق، ولكني أحاول أن أصمد لأنه _باختصار_ لا يوجد أي خيار آخر أمامي”.
وأدى تدهور العملة اللبنانية إلى زيادة نسبة التضخم، تمثل بالارتفاع الجنوني في أسعار السلع الأساسية، في مقابل انخفاض كبير في القدرة الشرائية للمواطن اللبناني خلال الآونة الأخيرة، حيث تضاعفت الأسعار الأساسية بنسبة 80 ضعف أسعارها قبيل الأزمة، فضلاً عن أسعار السلع الأخرى التي وصل بعضها إلى 200 ضعف، وانعدام سلع أخرى.
وفي وقت سابق كانت “لجنة المؤشر” (لجنة تأسست لتطبيق الإصلاحات الإقتصادية في لبنان بالتعاون مع المؤسسات المالية الدولية)، قد أقرَّت رفع الحد الأدنى للأجور في القطاع العام من 675 ألف ليرة إلى 4,500 ملايين ليرة، وهو المبلغ الذي كان في يساوي 121 دولار عند سعر صرف 37000، ولكن الآن أصبح لا يساوي سوى 55 دولار، والجدير بالذكر أن معظم المؤسسات لم تبدأ بعد بتنفيذ القرار، وأن معظم الموظفين في القطاع الحكومي لا يزالون يتقاضون رواتب أقل من مليون ليرة، أي ما يعادل 13 دولار شهريًا.
ومنذ أواخر عام 2019، يواجه الاقتصاد اللبناني حاليًا أزمة حادة، بعد الاحتجاجات الشعبية التي خرجت للتنديد بالقرارات الحكومية بفرض ضرائب على البنزين والاتصالات، ومنذ ذلك الحين تشهد عملة البلاد (الليرة اللبنانية) انخفاضًا حادًا في قيمتها، حيث فقدت الليرة اللبنانية حوالي 98% من قيمتها، حيث أدى ذلك إلى ارتفاع الأسعار والتضخم، خصوصًا بعد أزمة المصارف والبنوك فيما يتعلق بنقص العملة الأجنبية مما شكل ضغطًا على المواطنين والشركات في البلاد.
فساد متجذر وسوء إدارة
بحسب البنك الدولي، وصل معدل التضخم في لبنان إلى أعلى مستوياته على الإطلاق، ترافق ذلك مع ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية مثل الغذاء والوقود والرعاية الصحية إلى مستويات غير مسبوقة.
يعزو رياض سلامة – حاكم مصرف لبنان الانهيار الاقتصادي الحاصل في البلاد إلى توقف الحكومة عن دفع ما يتوجب عليها من سندات سيادية (اليورو بوند اللبنانية)، حيث يقول إن “هذا هو السبب الرئيسي الذي أدى إلى أضعاف الليرة اللبنانية أمام العملات الأجنبية، وأدى أيضًا إلى فقدان الثقة بالدولة فيما يخص سداد ديونها”.
من جانبه، يقول ستيف هانك – خبير الاقتصادي العالمي “أن الأزمة الحالية في لبنان هي نتيجة مجموعة من العوامل، بما في ذلك سنوات من الفساد وسوء الإدارة وعدم الاستقرار السياسي، واعتماد الدولة على الواردات وافتقارها للإنتاج المحلي الكافي الذي جعلها عرضة لتقلبات السوق العالمية وانخفاض قيمة عملتها، علاوة على ذلك، أدت السياسات الاقتصادية التي تتبناها الحكومة اللبنانية، بما في ذلك قرارها بالاقتراض بكثافة وفشلها في تنفيذ إصلاحات حقيقية، إلى تفاقم الوضع ودفعت البلاد إلى حافة الانهيار”.
في حين يرى توفيق دبوسي – رئيس غرفة التجارة الاقتصاد بالشمال اللبناني أن الأزمة الحالية، هي أزمة ثقة وأزمة إدارة “اليوم في لبنان لا يوجد اتفاق بين القيادة اللبنانية، ومن الطبيعي أن يستمر الانهيار الاقتصادي في ظل عدم وجود خطة إستراتيجية وطنية لتلافي الوضع، بالإضافة إلى إنهاء الفراغ الدستوري، بانتخاب شخص لمنصب رئيس الجمهورية الشاغر من منذ 4 أشهر، بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون”.
نُذر الفقر وشؤم المستقبل
أدى ارتفاع الأسعار وفارق صرف العملة بأزمة إنسانية كبيرة في لبنان، حيث أصبح أكثر من 80% من الشعب اللبناني يعيش تحت خط الفقر وفقًا للأمم المتحدة، وفي الأسابيع الماضية أطلقت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة وبرنامج الأغذية العالمي تقرير يُحذر من أزمة مجاعة تتربص باللبنانيين خلال العام الحالي، ووفقًا للتقرير فأن أكثر من مليوني شخص في لبنان، بمن فيهم 1.29 مليون لبناني و700 ألف لاجئ سوري يواجهون انعدام الأمن الغذائي، وبحاجة إلى المساعدة العاجلة.
يقول أحمد بركات – أحد المواطنين لـ أخبار الآن “منذ أكتوبر 2019، وكل يوم نصحو على سعر جديد للدولار، ولكن لم نكن نتوقع أن يصل إلى ما هو عليه اليوم، كانت المئة ألف ليرة تعادل 77 دولار، واليوم أصبحت لا تساوي حتى 2 دولار، والوضع أصبح كارثي للمواطن البسيط، والموظف الحكومي الذي أصبح راتبه الشهري لا يكفيه لمدة 5 ايام”.
ويعد تراجع القدرة الشرائية للمواطن اللبناني بسبب التضخم والوضع الاقتصادي قضية معقدة تتطلب من الحكومة العمل بجدية لمعالجتها، في حين لا توجد حلول سهلة، فمن الواضح أن هناك حاجة إلى مزيج من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لاستعادة الاستقرار والازدهار للبلاد وتحسين نوعية الحياة لمواطنيها.