أخبار الآن | دمشق – سوريا (أنس المصري)

"لو كنت داخلاً لمقابلة سفير أوروبي، لما انتظرت كل هذه المدةّ!" هكذا يقول "محمد" الخريج الجديد من كلية الاقتصاد في جامعة دمشق وهو خارج من مكتب ترجمان محلّف من العربية إلى الألمانية في حي المرجة وسط العاصمة السورية.

يتابع محمّد قائلاً إنه: "انتظر ساعتين كاملتين في المكتب حتى وصول المترجم، ليقول له أن ترجمة أوراق تخرجه من كلية الاقتصاد إلى اللغة الألمانية ستستغرق ثلاثة أسابيع على الأقل، إضافة إلى مبلغ عشرة آلاف ليرة سورية!".

الموقف السابق الذي تعرّص له محمّد بات يتعرّض له يومياً آلاف السوريين الذين يريدون ترجمة أوراقهم الدراسية والثبوتية إلى اللغات الأوروبية، ليس فقط بغرض الدراسة. لكن أيضاً معاملات لمّ الشمل والهجرة وما شابهها باتت تتطلّب من السوريين رحلة معاملات طويلة يجب أن تمرّ عبر المترجمين المحلّفين، حيث باتت هذه المرحلة هي الأصعب والأشدّ تكلفة على أصحاب هذه المعاملات.

من مهمّشين إلى رجال أعمال

"خلدون" مدرّس لغة إنكليزية للمرحلة الثانوية يروي كيف أن بعضاً من زملائه أصرّوا بعد التخرّج أن يتقدّموا للامتحان الذي تجريه وزارة العدل، والذي تمنح بموجب نتيجته وثيقة مصدّقة تخوّل المترجم أن يحصل على ختم باسمه معترف به من قبل الجهات الرسمية، الأمر الذي يعني مصداقية للأوراق التي يمهرها بهذا الختم.

ومع أن خلدون لم يخضع لمثل هذا الامتحان، ولا يملك ختما باسمه، إلا أنه يعمل اليوم على ترجمة بعض الأوراق المتراكمة في مكتب أحد زملائه من أيّام الدراسة: "هو يثق بي، ويعلم أن ترجمتي ستكون أدقّ من ترجمته هو فمستواي في اللغة متقدّم عليه" يضحك خلدون، ويضيف: "ولكنّ مستوى زميلي المعيشي تقدّم عليّ سنيناً ضوئية الآن، لقد تحوّل زميلي اليوم إلى رجل أعمال بعد أن كان طالباً مهمّشاً أيام الدراسة، وأنا الآن موظّف في أعماله الجديدة !".

لكن وعلى الرغم من ضغط الطلب على الترجمة الإنكليزية إلا أنّ مترجمي اللغة الألمانية المحلّفين يأخذون اليوم موقع الصدارة في عملية المعاملات الرسميّة في دمشق.

خريجو ألمانيا الديمقراطية

بسبب هجرة السواد الأعظم من السوريين إلى ألمانيا الاتحادية، كان الطلب على ترجمة الوثائق إلى اللغة الألمانية أكثر طلباً من غيرها من اللغات. ولكنّ المشكلة تكمن في نقص عدد هؤلاء المترجمين مقارنة باللغتين الإنكليزية والفرنسية.

ومن هنا فإن هذه الحاجة الملحّة دفعت بسوق الترجمة لنبش عدد من الملميّن باللغة الألمانية من العجائز وكبار السن ممن كانوا درسوا في جامعات ألمانيا الشرقية (الديمقراطية) أيّام التبادل الثقافي مع سوريا في ستينيات القرن الماضي.

لذلك فإن النكتة السائدة في أوساط الشباب السوريين ممّن يدأبون على ترجمة أوراقهم هي أن هؤلاء المترجمين قد خرجوا اليوم من المتاحف ليتحكّموا بمصيرنا، ويطلبوا أسعاراً خيالية مقابل عملهم.

"أبو محمد" والد أحد الشباب السوريين الذين هاجروا مؤخراً إلى ألمانيا يؤكّد هذا التصوّر عن مترجمي اللغة الألمانية: "تخيّل طالبني بثمانية آلاف ليرة سورية لترجمة شهادة ميلاد لحفيدي، وبيان عائلي وقيد نفوس! زد على ذلك مدة التأخير الذي ستؤخر عملية لم شمل زوجة ابني وطفله الصغير".

يؤكد "أبو محمّد" ومئات آخرون من المراجعين اليوميين على أن عملية إصدار الأوراق الرسمية وترجمتها وتصديقها، باتت عبئاً مالياً ونفسياً جديداً على عائلات من هاجروا بحثاً عن مستقبل أفضل.

الترجمة لمكافحة الإرهاب!

"بسبب تورط الكثير من الأجانب في الأحداث التي تدور في سورية قررت وزارة العدل إجراء مسابقة لتوظيف عدد من المترجمين لتسريع وتيرة محاكمة الأجانب الذين تم إلقاء القبض عليهم من قبل الجهات المختصة السورية".

بهذه الكلمات أعلنت وزارة العدل في حكومة النظام السوري مؤخراً عن حاجتها لتعيين عدد جديد من المترجمين، لا بغرض تسهيل أمور المواطنين وتخليصهم من احتكار بعض المترجمين للمهنة، ورفعهم للأسعار بشكل جنوني، ولكن بحجة محاكمة الأجانب المقاتلين على الأراضي السورية لتمعن الحكومة بذلك في انفصالها عن واقع المواطن السوري الذي لم يعد ينتظر منها إلا قراراتها الدورية برفع الأسعار.

حال الترجمة المحلّفة اليوم كحال عشرات المهن الأخرى التي ازدهرت في ظل الحرب الدائرة في سوريا، لم يكن أصحابها على موعد مسبق مع هذا الازدهار المفاجئ، والذي جاءهم دون سابق إنذار ليجعل منهم سفراء أوروبا في دمشق كما يصفهم زبائنهم في هذه الأيام.